مواضع مهمة ذات صلة بمدنية الشام ، والسبب فيه أن المتأخرين زهدوا في التاريخ حتى كادوا لا يفرقون بينه وبين أقاصيص العجائز ، وموضوعات المخرفين والوضاعين ، وعنيت بتجريد هذا الكتاب ما أمكن من المبالغات ، ونخل لباب الوقائع المهمة الثابتة وحذف ما فيه شية شبهة ، أو شائبة غلو ، وإن كان منها ما يروق بعضهم ويتفكهون بسماعه ، ويطربون لترداده. فخاطبت ما استطعت العقل أكثر من العاطفة ، وعنيت في قسم التاريخ السياسي أن أبين علل الحوادث ، وتسلسل الكوائن ، ودواعي الأحوال القريبة أو البعيدة ، واستخراج النتائج واستنباط القواعد. والتاريخ ربيب الحرية لا يتصرف على هوى من يكتبه ويقرأوه ولا على أذواق أهل العصر وأهوائهم. وما دام موضوعه الاعتبار بالخالي لمعرفة الحالي والآتي فهو جدير بأن يتحرى فيه الحق ولا يدون سواه. قال أحد العلماء : عند ما نريد أن نصل الى الحقائق التاريخية ، يجب أن تصح همتنا على إزالة الأوهام ، ونزع الزوان من الأساطير التي تعلق بالوقائع الثابتة القليلة التي وصلت إلينا.
* * *
كان المؤرخون بعد القرون الوسطى بين عاملين قويين ، إما أن يكذبوا فيغضبوا الحق ، أو يصدقوا فيغضبوا الخلق ، والعمال والأعيان منهم خاصة. فقد ألف مثلا ابن زوجة أبي عذيبة المقدسي المتوفى سنة ٨٥٦ تاريخين مطولا ومختصرا ، ولما توفي اطلع بعضهم على الكبير منه ، فوجد فيه أشياء توهمها في ثلب أعراض الناس فأتلفه ، وصنف عبد الله البصروي من أهل القرن الثاني عشر تاريخا لهذه الديار ، فبلغ أعيان دمشق خبره ، ولما هلك دخلوا داره وآلوا أن لا يأذنوا بدفنه أو يأخذوا التاريخ الذي وضعه ، فضبطوه وأحرقوه على أعين القوم ، مخافة أن تنكشف سيئات بعضهم. والذي ضاع من مدوّنات المتقدمين والمتأخرين يعد بالعشرات ، لكثرة الجوائح الأرضية والسماوية التي أصابتها. وإذا كتب البقاء لشيء مما كتبه المتأخرون فيكون في الغالب الى الركاكة لا تسقط فيه على حقيقة. وكثيرا ما كان العقلاء يعلقون على حواشي