إطلاقات المدافع وهي تدوي في الجو. فصاح الدكتور روص قائلا «آه لقد أطلقت المدافع ، إنها تعلن الانتهاء السار للمناوشات» لكن القرقعة السريعة المنطلقة من البنادق واستمرار النار المنطلقة من المدافع في إثر ذلك كانت تقص لنا قصة أخرى ، فاندفعنا كلنا إلى سطح الدار للوقوف على الخبر اليقين. على أن أشجار النخيل كانت تخفي المتحاربين عن أنظارنا ، مع أن دخان المدافع وانطلاق الرصاص السريع قد أقنعانا بأن قتالا جديّا كان يقوم على قدم وساق.
وقد علمنا بعد ذلك أن القتال كان قد بدأ أولا على إثر خبر تناهى إلى أسماع عقيل بأن شيخهم قد أعدم بأمر من الپاشا. فقسموا أنفسهم إلى جماعتين ، جاءت إحداهما لتقطع الجسر وتطلق النار على البلدة ، بينما اندفعت الأخرى من الباب الشمالية لتهاجم الجند الذين كانوا يرابطون هناك وتفاجىء مدفعيتهم. وفي الوقت نفسه عمد الپاشا ، مهما كانت نيته بادىء ذي بدء ، بعد أن أخافه الانفجار إلى الإنعام على الشيخ بخلعة الشرف وإعادته لتهدئة أتباعه ، بينما بعث سرّا إلى قائد جيشه الموجود في الجانب الغربي يأمره بأن يهاجم الأعراب من الخلف ـ وقد رأينا في الحقيقة مرور الزوارق وهي تحمل الضباط إلى المعسكر هناك. لكن الأعراب قد توقعوا حدوث هذا بحيث إن الرسول حينما جاء بالأوامر وجد الجند مشتبكين في قتال معهم. فقد كان اندفاعهم مفاجئا بحيث استطاعوا الاستيلاء على أحد المدافع قبل أن يعرف الجند وقائدهم ما إذا كان المتقدمون نحوهم بتلك السرعة من الأصدقاء أم من الأعداء. وعند ذاك قفز الجند إلى سلاحهم فردوا الأعراب على أعقابهم بفعل النار السريعة المنطلقة من المدافع الأخرى ، ومن بنادق الجيش النظامي. ودارت بعد ذلك معركة متنقلة حول الأسوار (١) على مقربة من باب الحلة. وكان هذا هو السبب في تجدد إطلاق النار الذي سمعناه.
__________________
(١) المعروف أن جانب الكرخ ظل من دون سور يحميه مدة من الزمن حتى جاء سليمان باشا الكبير (١٧٨٠ ـ ١٨٠٢ م) فبنى له السور المشار إليه.