ذاكرتي. كان الزمان والمكان يزخران بالجمال والسحر : كانت الوديان والكتل السفلية من الجبال قد بدأ يغشاها الغسق ، ولكن القمم العالية كانت ما تزال تقدح بعض شرر الغروب. إنه النزاع الأخير بين الضوء المتلاشي وبين الظلمة التي تولد ، وكانت عظمة المكان وجماله ، وهدوء الطبيعة ، والهواء العليل ، والمساء الحزين ، والعزلة ، والصمت ، والحرية ، كل ذلك ، كان يمس شغاف القلب ، ويجعله ثملا بالأحساسيس التي لا يمكن التعبير عنها ، وفي هذا اليوم أشعر حقا لأول مرة أنني أقمت في الصحراء.
ثم شددنا الرحال عند مطلع الشمس إلى ذلك النقب البغيض ، نقب حبران الذي لا يقل عبوره من هذه الجهة صعوبة عنه من الجهة المقابلة ، والذي أجهدنا في المرة السابقة كل الإجهاد ، وقد أجهدنا في العودة أكثر أيضا ، لأننا هبطنا منه هبوطا يكاد يكون عموديا ، عبر طريق أكثر قصرا ، ولكنها أكثر سوءا من الأخرى ، تكثر فيها الصخور المحدبة ، والحجارة المتدحرجة ، لقد كان النقب سريع الانحدار حتى إن الجمال لا تستطيع نزوله ، فقامت بالتفاف طويل حوله استغرق وقتا ، وجدنا أنفسنا معه مضطرين / ٩٠ / لانتظار وصولها وقتا طويلا في أسفل المنحدر.
ولما دخلنا وادي حبران تبدى لي من جديد جبل سربال الذي كان عاريا وقاحلا ، ولكنه كان جليلا كما تركته في الذهاب. ولقد أدهشني عند ما اقتربت منه عارض مزدوج من التناغم بين الضوء والأرض ، كانت قد فاتتني ملاحظته في المرة الأولى ، لأن الشمس كان لها حينئذ وضعية مختلفة : إنه منحدر ضخم ، ناتىء جدا ، ويحدث في الجبل قطعا عرضيا جانبيا ، وكانت طريقة الإضاءة في تلك اللحظة تعكس عليه ظلا واضحا كل الوضوح ، وأسود فاحما حتى لتظنّه ثوب حداد ضخما ، ملتفا بشكل متصالب على أحد العمالقة. لقد انضم إلينا خلال الطريق متطوع جديد : إنه قعود صغير وحر ، ضائع بدون شك ، وما زال غير مستأنس أيضا ، انضم إلى قافلتنا بدافع حب الجماعة ، وأضحكنا طوال فترة الصباح بقفزاته الجميلة ، وباستقلاليته ؛ فمع أنه كان يتبعنا عن قريب ، لم يترك أحدا يمسك به ، أو أن يقترب منه. وقد لقي جنود حملة