وإن كثيرا من هؤلاء الأشراف فقراء جدا ويعيشون على النفقة التي يدفعها إليهم الباب العالي ، ولكن ذلك لا يمنعهم من الاعتزاز بالدم الأصيل الذي يجري في عروفهم ، ويعدون أنفسهم ، على الرغم من فقرهم المدقع ، أرفع مقاما من أعظم الباشاوات الأتراك.
يشكل أشراف مكة طبقتين رئيسيتين : أولئك الذين يعنون بالآداب والشريعة والعبادة ، وبالتجارة ، وأولئك الذين وقفوا أنفسهم على السلاح والأمور العامة. يطلق على الأولين اسم : سيد ، أما الآخرون فهم الذين يحتكرون لقب الشريف (١). ويتبع الأبناء عادة وضع آبائهم / ١٦٦ / وأضيف هنا خصوصية غريبة ، وهي أن بنات الأشراف الذين يصلون إلى سدة الحكم محكوم عليهن بألّا يتزوجن (٢). وكان الأشراف في الماضي يحكمون البلد وحدهم مستبعدين الطبقات الأخرى. وشهدت حياتهم السياسية تقلبات كثيرة.
وأدوا في مكة الدور نفسه الذي أداه المماليك في مصر : فقد احتكروا كل المناصب المدنية والعسكرية ، وكانوا يعدون أنفسهم الأجدر دون غيرهم بالسلطة ، ويتصارعون عليها بينهم بالسلاح غالبا ، ويجرون معهم إلى خصوماتهم الشعب والبدو المجاورين. وليس الحياد بمسموح. ينبغي ، طوعا أو كرها ، مناصرة إحدى الأسر المتنافسة ، والتعرض لأشد الأخطار ، في فتن أهلية تتجدد على الدوام. كان يراق فيها الدم غالبا ، وكان المنهزمون يجلون عن البلد حتى يحدث انقلاب طارىء يغير وجه الأمور ، ويعيدهم إلى مسرح السياسة من جديد.
__________________
(١) ويقال إن السادة (جمع سيد) يعودون بنسبهم إلى الحسين بن علي رضياللهعنهم ، وهم في مكة المكرمة مجموعة خاصة يتزعمها من تختاره ، وتصادق الدوائر الحكومية على ذلك. ومنذ عام ١٨٨٥ م صار يعينه الشريف أو الوالي أو من هو أقوى منهما. أما الأشراف فهم الذين يعود نسبهم إلى الحسن بن علي رضياللهعنهم ؛ وهم أسر فصّل في أسماء أفرادها وأنسابهم هورخرونيه في كتابه صفحات من تاريخ مكة المكرمة ، موثق سابقا ، ج ٢ ، ص ٦٥١ ـ ٦٥٣.
(٢) انظر رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ٢١٢.