كان وما زال لدى أشراف مكة المكرمة عادة أشرت إليها باختصار فيما سبق ، وهي تستحق أن أذكّر بها. كان كل الأطفال الذكور للشريف الحاكم ينتزعون من أمهاتهم ، ومن لين العيش بين النساء بعد ثمانية أيام من ولادتهم ويعهد بهم إلى بعض قبائل الصحراء المشهورة بعلو قدرها ، لينشأ بينهم ، وحسب عاداتهم ؛ ولا يعود هؤلاء الأطفال إلى أسرهم إلا عند ما يبلغون العاشرة أو الثانية عشرة ، وغالبا بعد ذلك / ١٦٧ / ولا يظهرون بين الناس للمرة الأولى إلّا على متن الخيول إلى جانب آبائهم ، وكأنهم رجال ، لا أطفال. وينتج عن تلك التربية الرجولية والبطريركية أن الأشراف كانوا وما زالوا متفوقين أيضا ، قوة وشجاعة وصفاء قلب وعقل على بقية الناس. ويحفظ أولئك الأطفال إبّان حياتهم كلها كثيرا من الود والاحترام لأسرهم التي نشؤوا في كنفها ، وهم ينادونهم بقولهم : أبي وأمي وأخي ، ويخاطبهم هؤلاء بذلك أيضا. وهم يفضلونهم دائما على آبائهم الحقيقيين الذين لا يعرفونهم ، ولم يروهم أبدا ، ولا يعتادون حياة المدينة إلا بصعوبة كبيرة ؛ وكانوا يهربون في بعض الأحيان ليعودوا من جديد إلى المضارب التي نشؤوا بينها ، ويتزوج كثير منهم من بدويات. إن هذه العادة قديمة في شبه الجزيرة العربية ، تعود إلى ما قبل الإسلام ، ويروى أن النبي صلىاللهعليهوسلم تربى بهذه الطريقة في قبيلة بني سعد. وتمتاز هذه الطريقة بأنها تساعد الأشراف منذ نعومة أظافرهم على إتقان لغة البدو وعاداتهم ؛ وتوجد بينهم علاقات تدوم طويلا بين الأسر ، وكانت فيما مضى تؤمن لمختلف الأطراف في مكة المكرمة أنصارا شجعانا ومخلصين (١). لقد استطاعت بعض أسر الأشراف مع الزمن أن تتفوق على الأسر الأخرى بثرواتها ، وعددها ، ومناصريها من أهل الصحراء. وكان أقواهم إبّان فترة طويلة أبناء قتادة (٢) / ١٦٨ / الذين تنتمي إليهم أسرة
__________________
(١) انظر رحلات بوركهارت ... د موثق سابقا ، ص ٢٠٩ ـ ٢١١.
(٢) قتادة بن إدريس ، يعود نسبه إلى الحسن الثاني بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضياللهعنه. كان يرأس أسرة استمرت طويلا في تولّي مقاليد السلطة ، وذكر بوركهارت أن الأسرة كانت تقيم في وادي العلقميّة الذي يكوّن جزءا من ينبع النخل ، وتمكن من –