الآتية من المقطم تحوم فوق رؤوسنا ، مستعدة كل الاستعداد وقد نفد صبرها ، لكي تنقض على فضلات طعامنا ، مع أنها قليلة ، وكانت في هذه الأثناء بعض القبرات التي لا تكاد ترى تغني بنغمة فرحة في طبقات الهواء العليا ، وكان القطا ، عصفور الصحراء الذي سمي بذلك محاكاة لصوته الرتيب الذي يشبه النواح ، وهو خاص به ، ويكرره آلاف المرات وهو يتطاير من حولنا.
كان الجو جميلا ، والهواء عليلا حتى إننا لم نستطع أنا وأحد رفاق الرحلة مقاومة الرغبة في السير ؛ وقد كان ذلك رغبة في التسلية ، ولإعطاء حميرنا استراحة هي بالتأكيد مستحقة كل الاستحقاق لها. لقد تمكنا من السير لأن الطريق كانت صلبة ، وكان بالإمكان أن تنقلب تلك التسلية إلى تعب لا يحتمل ، لو أننا كنا نسير على الرمال المتحركة. لقد سرنا لأميال عدة دون أن نلحظ ذلك ، ونحن نتجاذب أطراف الحديث. لقد كان رفيقي يحب المشي شأنه شأني ، وكان رحالة مجربا ، إنكليزيا وضابطا في جيش بومباي ، واشتهر في بريطانيا بكتبه عن الشرق ؛ أحدها عن الصيد بالصقور في سوريا. وكان عائدا إلى فرقته العسكرية بعد عطلة عدة أشهر خصصها لأداء الحج إلى مكة المكرمة شأنه شأن أي مؤمن حقيقي ، كان يتكلم العربية بإتقان ، ويحفظ القرآن ، / ١٣ / وكان يرتدي بسهولة عجيبة الزي التقليدي ، ولا يخلعه أبدا ، إنه باختصار تمثّل أخلاق هذه البلاد وعاداتها حتى إنه أصبح ذا سحنة شرقية ، وأصبح من المستحيل على أي كان أن يقول : إنه أوروبي ، وكان العلماء والأئمة في مكة المكرمة يظنون من هيئة أنه أحد الهنود المسلمين.
لقد استطاع بفضل تنكره المتقن أن يتمّ دون خطر مشروعه المحفوف بالمخاطر ؛ لأننا نعلم أن مكة المكرمة والمدينة المنورة لا يدخلهما ـ حتى اليوم ـ غير المسلمين ، وإن دخلوها فهم يعرضون أنفسهم لعقوبة الموت أو التخلي عن دينهم ، واتباع الإسلام.
نشر السيد بيرتون (١) Burton رحلته بالإنكليزية ، ولم أقرأها ، ولكن ما
__________________
(١) Richard Francis Burton رتشار فرانسيس بيرتون (١٨٢١ م ـ ١٨٩٠ م). ولد بيرتون ـ