قد توقفت بعد موته ، ولم يعد إنشاء هذا القصر الخيالي في جبل سيناء واردا. وزعم الناس أن هذا المشروع المتهور كان يخفي وراءه نوايا سياسة خفية ؛ فقد كان عباس باشا منذ بعض الوقت قد بدأ يستميل البدو القاطنين على الحدود السورية ، ويقرّبهم منه ، ويستقبلهم بترحاب ، ولما ذهب لزيارتهم بنفسه ، وعدهم بإعطائهم أحد أبنائه لينشأ بينهم ، ويتخلق بأخلاقهم وعاداتهم ، وهذه عادة تمارس في الجزيرة العربية إذ يترك أبناء الأشراف أسرهم بعد عدة أيام من ولادتهم ، وينتقلون من حضن أمهاتهم إلى خيام رجال القبائل ، لكي يتدربوا على تقوية أجسادهم ، ويعتادوا تحمل التعب ، ولكي تلهج الركبان بأسمائهم ، تلك كانت ، كما يقال : النية الخفية ، والهدف السري لباشا مصر. كان يأمل ، وهو يرى الباب العالي متورطا في حرب مدمرة مع روسيا ، الاستفادة من الإنهاك الذي أصابه ليستولي من جديد ، بمساعدة البدو ، على ما كان يسيطر عليه جده محمد علي / ٤٨ / من مواقع في سوريا أجبرته أوروبا على التخلي عنها.
وكان في هذه الأثناء ، وبانتظار الفرصة المناسبة ، يرسل لقادة جيشه على مضض ، قليلا من المال مما يحتاجونه في الحرب. وعند ما سمع نبأ كارثة سينوب (١) Sinope البحرية التي تم فيها إغراق الأسطول البحري المصري كله تقريبا ، بدأ يكيل الشتائم المقذعة ، ليس للقيصر ، وإنما للسلطان التركي ؛ وأود في هذا المجال أن أسوق حادثة توضح طبيعة الرجل.
نتذكر أن أحد قادة السفن المصرية قام في ذلك اليوم المشؤوم بتفجير نفسه وسفينته بدل أن يستسلم للعدو ؛ وقد أبدى كل الناس إعجابهم بهذه المأثرة الجريئة ، باستثناء عباس : لأنه عاجز عن إدراك معنى الشجاعة ، والإخلاص ، لم ير في ذلك إلّا أنه خسر سفينة حربية ، وصرخ بغضب : عاهرPesvink ؛ وهي شتيمة مقذعة بالتركية ، كان لا يني يرددها ، شأنه شأن الغالبية
__________________
(١) سينوب Sinope (بالتركيةSinob) مدينة وميناء آسيوي في تركيا (الأناضول) حطم فيها الروس في عام (١٨٥٣) الأسطول التركي الذي كان يضم بين قطعاته الأسطول المصري.