أو نحو ذلك مجازفة جدّا ، لا تصدر إلّا من البسطاء وسواذج الناس الّذين لا تبيّن لهم في الأخبار ، ولا تحقيق لهم في مضامينها ، ولا معرفة لهم بحالات الصحابة والرواة ، وإلّا فكيف يقتنع من كان من أهل التفكير والتعقّل والتحقيق جواز وقوع امور لا يجوّزها العقل ، وتنافي ما استقرّت عليه حكمة النبوّات ورسالات السماء ، وامتحان الله تعالى لعباده جيلا بعد جيل.
وما تكلّفوا في الجواب عن ذلك ـ بأنّه إذا كان فيه ما يكذّب دعواه ، وأنّه مبطل غير محقّ ، وأنّه عاجز لا يقدر على رفع النقص عن نفسه ، ومحو كتابة الكفر عن جبهته ، فإظهار الخارق على يديه لامتحان العباد جائز لا يخالف حكمة الله تعالى ولطفه ـ غير سديد ؛ لأنّه لا وجه لهذا الامتحان الشديد الّذي لا مثيل له في ما امتحن الله به عباده ، وهل هذا إلّا إعانة المضلّ على إضلاله؟
وإن كنت في ريب من ذلك فتدبّر في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) (١) ، فترى في هذه القصّة أنّ إبراهيم وهو رسول الله لهداية عباده لم يحتجّ على من حاجّه ، بأنّك ذو أجزاء وأعضاء ، وجسمك يكذّب دعوى ألوهيّتك ، وأنّك لم تحي الموتى بإخراجك شخصين من السجن ، وأمرك بقتل أحدهما وإطلاق الآخر ، بل غيّر احتجاجه فقال : (فَإِنَّ اللهَ ...) وهذه سنّة رسالات السماء في هداية الناس ، فلمّا رأى إبراهيم أنّ الّذي حاجّه عارضه احتجاجه الأوّل
__________________
(١) البقرة : ٢٥٨.