فلمّا رأيت الرؤيا أيقنت أنّي راحلة عنك في عشية الليلة المقبلة ، وهذا العجين أخبزه في هذا اليوم ، والطين أغسل به رؤوس أولادي ، لأنّك في غداة غد مشغول بتجهيزي وغسلي ، وأخاف أن تجوع أولادي وتبقى رؤوسهم مغبرّة وثيابهم دكنة (١) ، فعملت هذين العملين في هذا اليوم ».
وجعلت تغسل قميص ولدها وتمشط رأسيهما وهي تقول : « ليتني أعلم بالذي يقع عليكم من بعدي من القتل والسمّ ».
ثم التفتت إلى عليّ عليهالسلام وقالت : « يا ابن العمّ ، لي عندك أربع وصايا : الأولى : إن كان وقع منّي تقصير لجنابك فاعف عنّي واسمح لي ».
فقال عليهالسلام : « حاشاك يا سيّدة النساء والتقصير ، بل كنت في كمال المحبّة ونهاية المودة والشفقة عَليّ والرضا والقناعة بما يأتيك منّي ».
ثم قالت : « وأما الوصية الثانية : فإني أوصيك يابن العم إذا تزوّجت بامرأة فاجعل لها يوماً ولولديّ يوماً ، يا أبا الحسن بلّغهما آمالهما ولا تنهرهما ولا تصح في وجههما ، فإنّما يصبحان غريبين يتيمين منكسرين ، لأنّهما بالأمس فقدا جدهما واليوم أمّهما ».
فجلس عليّ عليهالسلام عند رأسها ، وأمرت أسماء بنت عميس أن تصنع للحسن والحسين طعاما فيأكلان ويذهبان ، فبينما هي كذلك إذا أقبلا ، فوضعت لهما حصيراً وقدّمت لهما الطعام ، فقالا : « يا أسماء ، ما فعلت أمنّا ؟ وهل رأيت أيّنا نأكل بغير أمّنا » ؟
فقالت أسماء : يا ابني رسول الله ، إنّ أمّكما عندها بعض التصديع.
قال : فقاما ودخلا عليها ، فوجداها متّكئة على فراشها وعليّ عند رأسها ، فلمّا رأتهما قالت : « يا أبا الحسن ، امض بولديك إلى قبر جدّهما ». وكان مرادها عدم حضورهما عند وفاتها لئلا تنزعج قلوبهما ، فخرج بهما عليّ عليهالسلام.
قال الراوي : فلمّا كان اليوم الأربعون أقبل أمير المؤمنين عليهالسلام يريد المنزل ،
__________________
(١) دكن دكناً ودكنة : مال إلى الصواب ، والثوب اتّسح واغبرّ لونه. ( المعجم الوسيط ).