لعلمه السابق بأنهم صائرون لذلك لميل نفوسهم إلى الحق ، وجب أن يصيروا مؤمنين ؛ لأن علم الله لا يتغير ، ومن سبق لهم حكم الله بالضلال والجهل ، لما علم الله منهم سوء الاختيار ، والإصرار على الغواية والضلال ، استحال أن ينقلبوا عن ذلك الضلال ، كما قال تعالى : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) [الكهف ١٨ / ١٧].
ولا يقصد بوجود العلم والحكم السابق إجبار البشر على الإيمان والكفر ، فإن الإنسان مختار في حدود ما اختاره الله له ، أي إن الإنسان ، وهو يختار بمشيئته فإنه في الحقيقة التي لا يعلمها لا يختار إلا ما اختاره الله له ، فلا مشيئة للإنسان ولا لشيء إلا ما يشاؤه الله. وهذه المشيئة الكلية والشاملة لله في كل شيء كفلت للإنسان حرية الاختيار بقين الأمرين ، كفلت مشيئة الله في عدله ورحمته أن يكون له «الخيار» بين الهدى والأمن مع الله ، أو الضلال والشك ، كما بيّن تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ : إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [الدهر ٧٦ / ٣] (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد ٩٠ / ١٠].
(وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) أي ونجمعهم يوم القيامة في موقف الحساب بعد الخروج من القبور ، مسحوبين على وجوههم ، كما قال تعالى : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) [القمر ٥٤ / ٤٨] عميا لا يبصرون ، بكما لا ينطقون ، صمّا لا يسمعون ، أي أنهم كما كانوا في الدنيا معطلين هذه الحواس عن الانتفاع الحقيقي بها ، وإن كانوا في الظاهر مبصرين ناطقين سامعين ، فهم في الآخرة لا يبصرون طريق النجاة الذي يقر أعينهم ، ولا ينطقون بما يقبل منهم ، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم ، كما قال تعالى : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى ، فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) [الإسراء ١٧ / ٧٢] قال ابن كثير : وهذا يكون في حال دون حال ، جزاء لهم كما كانوا في الدنيا ، بكما وعميا وصما عن الحق ، فجوزوا في محشرهم بذلك.