إن هذا القرآن منزل من عند الله القوي الغالب الذي لا يقهر ، الحكيم في كل شيء بتدبيره ووضعه في المكان المناسب له ، وتحقيقه المصلحة لعباده. ويقتضي إثبات هاتين الصفتين لله عزوجل : كونه قادرا على جميع الممكنات ، عالما بجميع المعلومات ، غنيا عن كل الحاجات ، فلا يصدر منه العبث والباطل.
ثم ذكر الله تعالى ما تقتضيه العزة والحكمة ، فقال :
(إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي إن في خلق السموات وخلق الأرض لدلائل قاطعة على وجوده ووحدانيته وقدرته العظيمة ، وهذا دليل من الكون ، ثم ذكر تعالى دليلا من الأنفس ، فقال :
(وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي وإن في خلقكم دون وجود سابق ، ومروركم في أطوار مختلفة من الخلق ، من تراب ، ثم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة ، إلى أن يصير الواحد منكم إنسانا كامل الذات والصفات البشرية ، وفي خلق ما يفرق وينشر من دابة في نواحي الأرض المختلفة ، وأقاليمها المتفاوتة حرارة وبرودة واعتدالا ، وأراضيها الرطبة والجافة ، وأنواع حيواناتها الإنسية والوحشية ، البرية والبحرية والجوية ، آيات ودلائل أخرى شديدة الوضوح ، تدل على قدرة الصانع العظيم وحكمته ، التي يعتبر بها أهل اليقين ، الذين آمنوا ثم قبلوا الحق ، ثم ازدادوا إيمانا وأذعنوا ورسخ الإيمان في قلوبهم كالجبال الثوابت ، فأيقنوا يقينا تاما لا يخالطه أي شك.
(وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ، وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ ، فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ، وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ ، آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي وإن في اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما ، وتفاوتهما في الطول والقصر ، والحرارة والبرودة ، والضياء والظلمة ، وفيما أنزل الله من السحاب من مطر يكون سببا لرزق العباد وإحياء الأرض بإخراج النبات ، وفي تقليب الرياح وتغييرها من