وأما قوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا) (١) فلا يخلو «أهلكناها» من أن يكون خبرا أو صفة ؛ فالذى يقوّى الخبر قوله تعالى / : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) (٢). وقوله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) (٣). فكما أن «كم» فى هذه المواضع محمولة على «أهلكنا» كذلك إذا شغل عنها الفعل بالضمير ترتفع بالابتداء ، مثل زيدا ضربت ، وزيد ضربته. ومن قال : زيدا ضربته ، كان قوله تعالى :
(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) «كم» فى موضع النصب.
فإن قلت : فما وجه دخول الفاء فى قوله (فَجاءَها بَأْسُنا) والبأس لا يأتى المهلكين ، إنما يجيئهم البأس قبل الإهلاك ، ومن مجىء البأس يكون الإهلاك ، فإنه يكون المعنى فى قوله (أَهْلَكْناها) قربت من الهلاك ولم تهلك بعد ، ولكن لقربها من الهلاك ودنوها وقع عليها لفظ الماضي ، لمقاربتها له وإحانته إياها. ونظير هذا قولهم : قد قامت الصلاة ، إذا كان المقيم مفردا ، وإن لم تقع التحريمة بها ، للقرب من التحريمة بها. ومنه قول رؤبة :
يا حكم الوارث عن عبد الملك |
|
أوديت إن لم تحب حبو المعتنك (٤) |
فأوقع لفظ الماضي على الهلاك لمقاربته منه ، ومراده الآتي. ألا ترى أنك لا تقول : أتيتك إن قمت ؛ وإنما تقول : آتيك إن قمت. فمن حيث كان معناه الآتي ، قال : إن لم تحب ، ومن حيث قارب ذاك أوقع عليه لفظ
__________________
(١) الأعراف : ٣.
(٢) القصص : ٥٨.
(٣) الإسراء : ١٧.
(٤) اعتنك البعير : حبا في العانك فلم يقدر على السير. والعانك : الرمل إذا تعقد وارتفع. يقول : هلكت إن لم تحمل حمالتي بجهد.