فالمعنى : ما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة ، سمعوا وأبصروا حين لم ينفعهم ذلك لأنهم شاهدوا من أمر الله ما لا يحتاجون معه إلى نظر وفكر فعلموا الهدى وأطاعوا ، وهذا قول الأكثرين. والثاني : أسمع بحديثهم اليوم ، وأبصر كيف يصنع بهم (يَوْمَ يَأْتُونَنا) ، قاله أبو العالية. قوله تعالى : (لكِنِ الظَّالِمُونَ) يعني المشركين والكفّار (الْيَوْمَ) يعني في الدنيا (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).
قوله تعالى : (وَأَنْذِرْهُمْ) أي : خوف كفّار مكّة (يَوْمَ الْحَسْرَةِ) يعني : يوم القيامة يتحسّر المسيء إذا لم يحسن ، والمقصّر إذ لم يزدد من الخير. وموجبات الحسرة يوم القيامة كثيرة ، فمن ذلك ما روى أبو سعيد الخدريّ ، عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال :
(٩٥٧) «إذا دخل أهل الجنّة الجنّة ، وأهل النار النار ، قيل : يا أهل الجنّة ، فيشرئبّون وينظرون ، وقيل : يا أهل النار فيشرئبون وينظرون فيجاء بالموت كأنه كبش أملح ، فيقال لهم : هل تعرفون هذا؟ فيقولون : هذا الموت ، فيذبح ، ثم يقال : يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت ؛ ثم قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩)).» قال المفسّرون : فهذه هي الحسرة إذا ذبح الموت ، فلو مات أحد فرحا مات أهل الجنّة ، ولو مات أحد حزنا مات أهل النار.
ومن موجبات الحسرة ما روى عديّ بن حاتم عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال :
(٩٥٨) «يؤتى يوم القيامة بناس إلى الجنّة ، حتى إذا دنوا منها واستنشقوا ريحها ونظروا إلى قصورها ، نودوا : أن اصرفوهم عنها ، لا نصيب لهم فيها ، فيرجعون بحسرة ما رجع الأوّلون بمثلها. فيقولون : يا ربّنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا كان أهون علينا ؛ قال : ذلك أردت بكم ، كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظائم ، وإذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين (١) ، تراؤون الناس بخلاف ما تعطوني من قلوبكم ، هبتم (٢) الناس ولم تهابوني ، وأجللتم (٣) الناس ولم تجلّوني ، تركتم للناس ولم تتركوا لي ، فاليوم أذيقكم العذاب مع ما حرمتكم من الثّواب».
ومن موجبات الحسرة ما روي عن ابن مسعود قال : ليس من نفس يوم القيامة إلّا وهي تنظر إلى بيت في الجنة ، وبيت في النار ، ثم يقال : يعني لهؤلاء : لو عملتم ، ولأهل الجنّة : لو لا أن منّ الله
____________________________________
(٩٥٧) صحيح. أخرجه البخاري ٤٧٣٠ ومسلم ٢٨٤٩ وأحمد ٣ / ٩ والترمذي ٢٥٥٨ وأبو يعلى ١١٧٥ وابن حبان عقب حديث ٧٤٧٤ من حديث أبي سعيد. وورد من حديث ابن عمر أخرجه البخاري ٦٥٤٨ ومسلم ٢٨٥٠.
وفي الباب أحاديث كثيرة. وانظر «تفسير الشوكاني» ١٥٦٠ بتخريجنا.
(٩٥٨) ضعيف جدا. أخرجه ابن حبان في «المجروحين» ٣ / ١٥٥ ـ ١٥٦ وأبو نعيم ٤ / ١٢٥ والطبراني ١٧ / ٨٥ ـ ٨٦ والبيهقي في «الشعب» ٦٨٠٩ من حديث عدي بن حاتم ، ومداره على أبي جنادة حصين بن مخارق ، وهو متروك ، واتهمه الدار قطني بالوضع. وقال ابن حبان : لا يجوز الرواية عنه. ومع ذلك قال الهيثمي في «المجمع» ١٠ / ٢٢٠ / ١٧٦٤٩ : أبو جنادة ضعيف!!؟. والصواب أنه ضعيف جدا ، والخبر شبه موضوع.
__________________
(١) الإخبات : الخشوع والتواضع.
(٢) هبتم : خفتم الناس وحسبتم لهم حسابا.
(٣) أجللتم : عظّمتم.