فصل : وأكثر علماء المفسّرين على أنّ هذه الآية محكمة ، وممّن روي عنه ذلك ابن عباس ، والقاسم بن محمّد ، وجابر بن زيد ، والشّعبيّ. وحكي عن سعيد بن المسيّب أنها منسوخة بقوله : (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا) والأول أصح ، لأن معنى هذه الآية : وإذا بلغ الأطفال منكم ، أو من الأحرار الحلم ، (فَلْيَسْتَأْذِنُوا) ، أي : في جميع الأوقات في الدّخول عليكم (كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني : كما استأذن الأحرار الكبار ، الذين هم قبلهم في الوجود ، وهم الذين أمروا بالاستئذان على كلّ حال ؛ فالبالغ يستأذن في كلّ وقت ، والطفل والمملوك يستأذنان في العورات الثلاث. قوله تعالى : (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ) قال ابن قتيبة : يعني : العجّز ، واحدها : قاعد ، ويقال : إنما قيل لها : قاعد ، لقعودها عن الحيض والولد ، وقد تقعد عن الحيض والولد ومثلها يرجو النّكاح ، ولا أراها سمّيت قاعدا إلّا بالقعود ، لأنها إذا أسنّت عجزت عن التّصرّف وكثرة الحركة ، وأطالت القعود ، فقيل لها : «قاعد» بلا هاء ، ليدلّ حذف الهاء على أنه قعود كبر ، كما قالوا : «امرأة حامل» ، ليدلّوا بحذف الهاء على أنه حمل حبل ، وقالوا في غير ذلك : قاعدة في بيتها ، وحاملة على ظهرها. قوله تعالى : (أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَ) أي : عند الرجال ؛ ويعني بالثياب : الجلباب والرّداء والقناع الذي فوق الخمار ، هذا المراد بالثياب ، لا جميع الثياب ، (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) أي : من غير أن يردن بوضع الجلباب أن ترى زينتهنّ ؛ والتّبرّج : إظهار المرأة محاسنها ، (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ) فلا يضعن تلك الثياب (خَيْرٌ لَهُنَ) ، قال ابن قتيبة : والعرب تقول : امرأة واضع : إذا كبرت فوضعت الخمار ، ولا يكون هذا إلّا في الهرمة. قال القاضي أبو يعلى : وفي هذه الآية دلالة على أنه يباح للعجوز كشف وجهها ويديها بين يدي الرجال ، وأما شعرها ، فيحرم النظر إليه كشعر الشابّة.
(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١))
قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) في سبب نزولها خمسة أقوال :
(١٠٤٢) أحدها : أنه لمّا نزل قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) (١) تحرّج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والزّمنى والعمي والعرج ، وقالوا : الطعام أفضل الأموال ، وقد نهى الله تعالى عن أكل المال بالباطل ، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطّيّب ، والمريض لا يستوفي الطعام ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس.
____________________________________
(١٠٤٢) أخرجه الطبري ٢٦٢١٩ عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس به ، ورجاله ثقات إلا أنه منقطع بين علي وابن عباس. والراجح هو الآتي ، والله أعلم. وانظر «أحكام القرآن» ٣ / ٤٢١ بتخريجنا.
__________________
(١) سورة النساء : ٢٩.