(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩))
قوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً) المعنى : صف لأهل مكّة مثلا ؛ أي : شبها. وقال الزّجّاج : المعنى : مثل لهم مثلا (أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) وهو بدل من مثل ، كأنه قال : اذكر لهم أصحاب القرية. وقال عكرمة ، وقتادة : هذه القرية هي أنطاكيّة (١). (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ) وفي اسميهما ثلاثة أقوال (٢) : أحدها : صادق وصدوق ، قاله ابن عباس ، وكعب. والثاني : يوحنّا وبولس ، قاله وهب بن منبّه. والثالث : تومان وبولس ، قاله مقاتل.
قوله تعالى : (فَعَزَّزْنا) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ ، وحفص عن عاصم : «فعزّزنا» بتشديد الزاي ، قال ابن قتيبة : المعنى : قوّينا وشدّدنا ، يقال : تعزّز لحم النّاقة : إذا صلب. وقرأ أبو بكر ، والمفضّل عن عاصم : «فعززنا» خفيفة ، قال أبو عليّ : أراد : فغلبنا. قال مقاتل : واسم هذا الثالث شمعون ، وكان من الحواريّين ، وهو وصيّ عيسى عليهالسلام. قال وهب : وأوحى الله إلى شمعون يخبره خبر الاثنين ويأمره بنصرتهما ، فانطلق يؤمّهما. وذكر الفرّاء أنّ هذا الثالث كان قد أرسل قبلهما ؛ قال : ونراه في التّنزيل كأنه بعدهما ، وإنما المعنى : فعزّزنا بالثالث الذي قبلهما ، والمفسّرون على أنه إنما أرسل لنصرتهما ، ثمّ إنّ الثالث إنما يكون بعد ثان ، فأمّا إذا سبق الاثنين فهو أوّل ؛ وإنّي لأتعجّب من قول الفرّاء.
واختلف المفسّرون فيمن أرسل هؤلاء الرّسل على قولين (٣) : أحدهما : أنّ الله تعالى أرسلهم ،
__________________
(١) قال ابن كثير رحمهالله في «التفسير» ٣ / ٦٩٥ ـ ٦٩٨ : وقد استشكل بعض الأئمة كونها أنطاكية بما سيأتي في نهاية القصة وهو أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم ، وكانوا أول مدينة آمنت بالمسيح ، ولهذا كانت عند النصارى إحدى المدائن الأربعة اللاتي فيهن بتاركة ، وهن القدس لأنها بلد المسيح ، وأنطاكية لأنها أول بلد آمنت بالمسيح عن آخر أهلها ، فإذا تقرر أن أنطاكية أول مدينة آمنت ، فأهل هذه القرية قد ذكر الله تعالى أنهم كذّبوا رسله ، وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم. وإن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب المسيح بعد نزول التوراة ، وقد ذكر أبو سعيد الخدري وغير واحد من السلف : أن الله تبارك وتعالى بعد إنزاله التوراة لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم ، بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين ، ذكروه عند قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) فعلى هذا يتعين أن هذه القرية المذكورة في القرآن قرية أخرى غير أنطاكية ، كما أطلق ذلك غير واحد من السلف أيضا. أو تكون أنطاكية إن كان لفظها محفوظا في هذه القصة مدينة أخرى غير هذه المشهورة المعروفة ، فإن هذه لم يعرف أنها أهلكت لا في الملة النصرانية ولا قبل ذلك ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(٢) هذه الأقوال لا حجة فيها جميعا لأن مصدرها كتب الأقدمين ، فالله أعلم بالصواب.
(٣) قال ابن كثير في «التفسير» ٣ / ٦٩٨ : إن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله ـ عزوجل ـ لا من