(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦))
ثم ذكّرهم قدرته فقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) قال ابن قتيبة : يجوز أن يكون المعنى : ممّا عملناه بقوّتنا وقدرتنا ، وفي اليد القدرة والقوّة على العمل ، فتستعار اليد فتوضع موضعها ، هذا مجاز للعرب يحتمله هذا الحرف ، والله أعلم بما أراد. وقال غيره : ذكر الأيدي ها هنا يدلّ على انفراده بما خلق ، والمعنى : لم يشاركنا أحد في إنشائنا ؛ والواحد منّا إذا قال : عملت هذا بيدي ، دلّ ذلك على انفراده بعمله. وقال أبو سليمان الدّمشقي : معنى الآية : ممّا أوجدناه بقدرتنا وقوّتنا ؛ وهذا إجماع أنه لم يرد ها هنا إلّا ما ذكرنا. قوله تعالى : (فَهُمْ لَها مالِكُونَ) فيه قولان : أحدهما : ضابطون ، قاله قتادة ومقاتل. قال الزّجّاج : ومثله في الشّعر :
أصبحت لا أحمل السّلاح ولا |
|
أملك رأس البعير إن نفرا (١) |
أي : لا أضبط رأس البعير. والثاني : قادرون عليها بالتّسخير لهم ، قاله ابن السّائب.
قوله تعالى : (وَذَلَّلْناها لَهُمْ) أي : سخّرناها ، فهي ذليلة لهم (فَمِنْها رَكُوبُهُمْ) قال ابن قتيبة : الرّكوب : ما يركبون ، والحلوب : ما يحلبون. قال الفرّاء : ولو قرأ قارئ : «فمنها ركوبهم» ، كان وجها ، كما تقول : منها أكلهم وشربهم وركوبهم. وقد قرأ بضمّ الراء الحسن ، وأبو العالية ، والأعمش ، وابن يعمر في آخرين. وقرأ أبيّ بن كعب ، وعائشة : «ركوبتهم» بفتح الراء والباء وزيادة تاء مرفوعة. قال المفسّرون : يركبون من الأنعام الإبل ، ويأكلون الغنم ، (وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ) من الأصواف والأوبار والأشعار والنّسل (وَمَشارِبُ) من ألبانها ، (أَفَلا يَشْكُرُونَ) ربّ هذه النّعم فيوحّدونه؟! ثم ذكر جهلهم فقال : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) أي : لتمنعهم من عذاب الله ؛ ثم أخبر أنّ ذلك لا يكون بقوله : (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ) أي : لا تقدر الأصنام على منعهم من أمر أراده الله بهم (وَهُمْ) يعني الكفّار و (لَهُمْ) يعني الأصنام (جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) وفيه أربعة أقوال : أحدها : جند في الدنيا محضرون في النّار ، قاله الحسن. والثاني : محضرون عند الحساب ، قاله مجاهد. والثالث : المشركون جند للأصنام ، يغضبون لها في الدنيا ، وهي لا تسوق إليهم خيرا ولا تدفع عنهم شرّا ، قاله قتادة. وقال مقاتل : الكفّار يغضبون للآلهة ويحضرونها في الدنيا. وقال الزّجّاج : هم للأصنام ينتصرون ، وهي لا تستطيع نصرهم. والرابع : هم جند محضرون عند الأصنام يعبدونها ، قاله ابن السّائب.
قوله تعالى (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) يعني قول كفّار مكّة في تكذيبك (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) في ضمائرهم من تكذيبك (وَما يُعْلِنُونَ) بألسنتهم من ذلك ؛ والمعنى : إنا نثيبك ونجازيهم.
(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ
__________________
(١) البيت للربيع بن منيع الفزاري ، كما في «روح المعاني» ٢٣ / ٤٧ ، قاله بعد ما أسن ، وجاوز المائة.