فقالوا : يا محمد لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال ، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس ، وأنك لم تلق مثلنا ، فأنزل الله في ذلك قوله (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ ـ إلى قوله ـ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) وقد رواه محمد بن إسحاق أيضا ، عن محمد بن أبي محمد ، عن سعيد أو عكرمة ، عن ابن عباس ، فذكره ، ولهذا قال تعالى : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) أي (قَدْ كانَ لَكُمْ) أيها اليهود القائلون ما قلتم (آيَةٌ) ، أي دلالة على أن الله معز دينه ، وناصر رسوله ، ومظهر كلمته ، ومعل أمره (فِي فِئَتَيْنِ) أي طائفتين (الْتَقَتا) أي للقتال (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ) وهم مشركو قريش يوم بدر ، وقوله : (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) قال بعض العلماء فيما حكاه ابن جرير (١) : يرى المشركون يوم بدر المسلمين مثليهم في العدد رأي أعينهم ، أي جعل الله ذلك فيما رأوه سببا لنصرة الإسلام عليهم ، وهذا لا إشكال عليه إلا من جهة واحدة ، وهي أن المشركين بعثوا عمر بن سعد يومئذ قبل القتال يحزر (٢) لهم المسلمين ، فأخبرهم بأنهم ثلاثمائة يزيدون قليلا أو ينقصون ، وهكذا كان الأمر ؛ كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ، ثم لما وقع القتال أمدهم الله بألف من خواص الملائكة وساداتهم.
والقول الثاني : أن المعنى في قوله تعالى : (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) أي ترى الفئة المسلمة الفئة الكافرة مثليهم ، أي ضعيفهم في العدد ، ومع هذا نصرهم الله عليهم ، وهذا لا إشكال فيه على ما رواه العوفي عن ابن عباس : أن المؤمنين كانوا يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، والمشركين كانوا ستمائة وستة وعشرين رجلا وكأن هذا القول مأخوذ من ظاهر هذه الآية ، ولكنه خلاف المشهور عند أهل التواريخ والسير وأيام الناس ، وخلاف المعروف عند الجمهور من أن المشركين كانوا ما بين تسعمائة إلى ألف ، كما رواه محمد بن إسحاق (٣) عن يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير ، أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، لما سأل ذلك العبد (٤) الأسود لبني الحجاج عن عدة قريش قال : كثير ، قال «كم ينحرون كل يوم»؟ قال : يوما تسعا ويوما عشرا ، فقال النبيصلىاللهعليهوسلم «القوم ما بين التسعمائة إلى الألف».
وروى أبو إسحاق السبيعي ، عن حارثة ، عن علي رضي الله عنه ، قال : كانوا ألفا ، وكذا قال ابن مسعود. والمشهور أنهم كانوا ما بين التسعمائة إلى الألف ، وعلى كل تقدير كانوا ثلاثة أمثال المسلمين ، وعلى هذا فيشكل هذا القول ، والله أعلم ، لكن وجه ابن جرير هذا وجعله
__________________
(١) تفسير الطبري ٣ / ١٩٤.
(٢) أي يقدّر عديدهم وعتادهم.
(٣) تفسير الطبري ٣ / ١٩٦.
(٤) في الطبري أنهما كانا غلامين ، أحدهما أسلم وهو غلام بني الحجاج ، والثاني عريض أبو يسار غلام بني العاص.