قال محمد بن إسحاق (١) (وَيَسْتَبْشِرُونَ) أي ويسرون بلحوق من خلفهم (٢) من إخوانهم على ما مضوا عليه من جهادهم ، ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الذي أعطاهم. قال السدي : يؤتى الشهيد بكتاب فيه : يقدم عليك فلان يوم كذا وكذا ، ويقدم عليك فلان يوم كذا وكذا ، فيسر بذلك كما يسر أهل الدنيا بغائبهم إذا قدم ، وقال سعيد بن جبير : لما دخلوا الجنة ورأوا ما فيها من الكرامة للشهداء ، قالوا : يا ليت إخواننا الذين في الدنيا يعلمون ما عرفناه من الكرامة ، فإذا شهدوا القتال باشروها بأنفسهم حتى يستشهدوا فيصيبوا ما أصبنا من الخير ، فأخبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بأمرهم وما هم فيه من الكرامة ، وأخبرهم ، أي ربهم ، أني قد أنزلت على نبيكم وأخبرته بأمركم وما أنتم فيه ، فاستبشروا بذلك ، فذلك قوله : (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) الآية ، وقد ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه في قصة أصحاب بئر معونة السبعين من الأنصار الذين قتلوا في غداة واحدة ، وقنت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يدعو على الذين قتلوهم ويلعنهم ، قال أنس : ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رفع «أن بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا».
ثم قال تعالى : (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) قال محمد بن إسحاق : استبشروا وسروا لما عاينوا من وفاء الموعود وجزيل الثواب. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هذه الآية جمعت المؤمنين كلهم سواء الشهداء وغيرهم ، وقلما ذكر الله فضلا ذكر به الأنبياء وثوابا أعطاهم الله إياه ، إلا ذكر الله ما أعطى المؤمنين من بعدهم.
وقوله تعالى : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) هذا كان يوم حمراء الأسد ، وذلك أن المشركين لما أصابوا ما أصابوا من المسلمين ، كروا راجعين إلى بلادهم ، فلما استمروا في سيرهم تندّموا لم لا تمموا على أهل المدينة وجعلوها الفيصلة ، فلما بلغ ذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم ندب المسلمين إلى الذهاب وراءهم ليرعبهم ويريهم أن بهم قوة وجلدا ، ولم يأذن لأحد سوى من حضر الوقعة يوم أحد سوى جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، لما سنذكره ، فانتدب المسلمون على ما بهم من الجراح والإثخان طاعة لله عزوجل ولرسوله صلىاللهعليهوسلم. قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد ، حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو ، عن عكرمة ، قال : لما رجع المشركون عن أحد ، قالوا : لا محمدا قتلتم ، ولا الكواعب أردفتم ، بئس ما صنعتم ، ارجعوا ، فسمع رسول الله صلىاللهعليهوسلم بذلك ، فندب المسلمين ، فانتدبوا حتى بلغوا حمراء الأسد ـ أو بئر أبي عيينة ـ الشك من سفيان ـ فقال المشركون : نرجع من قابل ، فرجع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فكانت تعد غزوة ، فأنزل الله تعالى : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ
__________________
(١) سيرة ابن هشام ٢ / ١١٩.
(٢) في السيرة : «لحقهم».