جالس في ظل الكعبة والناس حوله مجتمعون عليه ، فأتيتهم فجلست إليه ، فقال : كنا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم في سفر فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه ، ومنا من ينتضل (١) ، ومنا من هو في جشره(٢) ، إذ نادى منادي رسول الله صلىاللهعليهوسلم : الصلاة جامعة ، فاجتمعنا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «إنه لم يكن نبي من قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم ، وينذرهم شر ما يعلمه لهم ، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها ، وسيصيب آخرها بلاء ، وأمور تنكرونها ، وتجيء فتن يرفق بعضها بعضا ، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن : هذه مهلكتي ، ثم تنكشف وتجئ الفتنة فيقول المؤمن : هذه هذه ، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة ، فلتأته منيته وهو يؤمن با لله واليوم الآخر ، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه ، ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه ، فليطعه إن استطاع ، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر ، قال : فدنوت منه فقلت : أنشدك بالله ، آنت سمعت هذا من رسول الله صلىاللهعليهوسلم؟ فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه ، وقال : سمعته أذناي ، ووعاه قلبي ، فقلت له : هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ، ونقتل أنفسنا ، والله تعالى يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) [النساء : ٢٩] قال : فسكت ساعة ، ثم قال : أطعه في طاعة الله ، واعصه في معصية الله (٣).
والأحاديث في هذا كثيرة. وقال ابن جرير (٤) : حدثنا محمد بن الحسين ، حدثنا أحمد بن مفضل ، حدثنا أسباط عن السدي في قوله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) قال : بعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم سرية عليها خالد بن الوليد وفيها عمار بن ياسر ، فساروا قبل القوم الذين يريدون ، فلما بلغوا قريبا منهم عرّسوا وأتاهم ذو العيينتين فأخبرهم ، فأصبحوا قد هربوا غير رجل فأمر أهله فجمعوا متاعهم ، ثم أقبل يمشي في ظلمة الليل حتى أتى عسكر خالد ، فسأل عن عمار بن ياسر فأتاه فقال : يا أبا اليقظان ، إني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وإن قومي لما سمعوا بكم هربوا ، وإني بقيت فهل إسلامي نافعي غدا ، وإلا هربت؟ قال عمار : بل هو ينفع فأقم ، فأقام ، فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد أحدا غير الرجل ، فأخذه وأخذ ماله ، فبلغ عمارا الخبر ، فأتى خالدا فقال : خل عن الرجل فإنه قد أسلم وإنه في أمان مني ، فقال خالد : وفيم أنت تجير؟ فاستبا وارتفعا إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فأجاز أمان عمار ونهاه أن يجير الثانية على أمير ، فاستبا عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال خالد : أتترك هذا العبد
__________________
(١) انتضل القوم وتناضلوا : تراموا بالسهام.
(٢) الجشر : الدواب.
(٣) صحيح مسلم (إمارة حديث ٤٦)
(٤) تفسير الطبري ٤ / ١٥١.