وقوله : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) أي تخففوا فيها إما من كميتها بأن تجعل الرباعية ثنائية كما فهمه الجمهور من هذه الآية ، واستدلوا بها على قصر الصلاة في السفر على اختلافهم في ذلك ، فمن قائل : لا بد أن يكون سفر طاعة من جهاد ، أو حج ، أو عمرة ، أو طلب علم ، أو زيارة ، وغير ذلك ، كما هو مروي عن ابن عمر وعطاء ويحيى عن مالك في رواية عنه نحوه ، لظاهر قوله : (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، ومن قائل : لا يشترط سفر القربة ، بل لا بد أن يكون مباحا ، لقوله : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) [المائدة : ٣] ، كما أباح له تناول الميتة مع الاضطرار بشرط أن لا يكون عاصيا بسفره ، وهذا قول الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة.
وقد قال أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله ، إني رجل تاجر أختلف إلى البحرين ، فأمره أن يصلي ركعتين ، وهذا مرسل ، ومن قائل : يكفي مطلق السفر سواء كان مباحا أو محظورا حتى لو خرج لقطع الطريق وإخافة السبيل ترخص لوجود مطلق السفر ، وهذا قول أبي حنيفة والثوري وداود لعموم الآية وخالفهم الجمهور.
وأما قوله تعالى : (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) فقد يكون هذا خرج مخرج الغالب حال نزول هذه الآية ، فإن في مبدأ الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة ، بل ما كانوا ينهضون إلا إلى غزو عام ، أو في سرية خاصة. وسائر الأحيان حرب للإسلام وأهله ، والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب أو على حادثة فلا مفهوم له ، كقوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) [النور : ٣٣] ، وكقوله تعالى : (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ) [النساء : ٢٣] ، وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا ابن إدريس ، حدثنا ابن جريج عن ابن أبي عمار ، عن عبد الله بن بابيه ، عن يعلى بن أمية ، قال : سألت عمر بن الخطاب قلت له : قوله : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وقد أمن الله الناس؟ فقال لي عمر رضي الله عنه : عجبت مما عجبت منه ، فسألت رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن ذلك ، فقال : «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته». وهكذا رواه مسلم وأهل السنن من حديث ابن جريج عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار به. وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. وقال علي بن المديني : هذا حديث حسن صحيح من حديث عمر ، ولا يحفظ إلا من هذا الوجه ورجاله معروفون.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا مالك بن مغول عن أبي حنظلة الحذاء ، قال : سألت ابن عمر عن صلاة السفر ، فقال : ركعتان ، فقلت : أين قوله : (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ
__________________
(١) مسند أحمد ١ / ٢٥ ـ ٢٦.