جمال رجال بني الحارث بن كعب ، قال : يقول من رآهم من أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم : ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم ؛ وقد حانت صلاتهم فقاموا في مسجد رسول الله صلىاللهعليهوسلم يصلّون ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «دعوهم» فصلوا إلى المشرق ، قال : فكلم رسول الله صلىاللهعليهوسلم منهم أبو حارثة بن علقمة ، والعاقب عبد المسيح ، والسيد الأيهم وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف من أمرهم يقولون : هو الله ، ويقولون : هو ولد الله ، ويقولون : هو ثالث ثلاثة ، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. وكذلك قول النصرانية.
فهم يحتجون في قولهم هو الله ، بأنه كان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص والأسقام ، ويخبر بالغيوب ، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا ، وذلك كله بأمر الله. وليجعله الله آية للناس ، ويحتجون على قولهم بأنه ابن الله يقولون : لم يكن له أب يعلم ، وقد تكلم في المهد بشيء لم يسمعه أحد من بني آدم قبله (١) ، ويحتجون على قولهم بأنه ثالث ثلاثة بقول الله تعالى : فعلنا وأمرنا وخلقنا وقضينا فيقولون : لو كان واحدا ما قال إلا فعلت وأمرت وقضيت وخلقت ، ولكنه هو وعيسى ومريم ـ تعالى الله وتقدس وتنزه عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا ـ ففي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن ، فلما كلمه الحبران ، قال لهما رسول الله صلىاللهعليهوسلم «أسلما» قالا : قد أسلمنا ، قال : «إنكما لم تسلما فأسلما». قالا : بلى قد أسلمنا قبلك. قال : «كذبتما يمنعكما من الإسلام ادعاؤكما لله ولدا وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير». قالا : فمن أبوه يا محمد؟ فصمت رسول الله صلىاللهعليهوسلم عنهما فلم يجبهما ، فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها.
ثم تكلم ابن إسحاق على تفسيرها (٢) إلى أن قال : فلما أتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم الخبر من الله والفصل من القضاء بينه وبينهم وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه دعاهم إلى ذلك ، فقالوا : يا أبا القاسم ، دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه ، ثم انصرفوا عنه ، ثم خلوا بالعاقب ، وكان ذا رأيهم فقالوا : يا عبد المسيح ماذا ترى؟ فقال : والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمدا لنبي مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ، ولقد علمتم أنه ما لا عن قوم نبيا قط ، فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم ، وإنه الاستئصال منكم إن فعلتم ، فإن كنتم أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم ، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم ، فأتوا النبي صلىاللهعليهوسلم فقالوا : يا أبا القاسم ، قد رأينا أن لا نلاعنك وأن نتركك على دينك ونرجع على ديننا ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها في أموالنا ، فإنكم عندنا رضا.
__________________
(١) عبارة السيرة : «وقد تكلم في المهد ، وهذا لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله» وهي أوضح.
(٢) انظر سيرة ابن هشام ١ / ٥٧٦ ـ ٥٨٣.