فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب السفر عنهم ، ولبسوا حللا لهم يجرونها من حبرة وخواتيم الذهب ، ثم انطلقوا حتى أتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فسلموا عليه ، فلم يرد عليهم ، وتصدوا لكلامه نهارا طويلا ، فلم يكلمهم وعليهم تلك الحلل وخواتيم الذهب ، فانطلقوا يتبعون عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف ، وكانا معرفة لهم ، فوجدوهما في ناس من المهاجرين والأنصار في مجلس ، فقالوا : يا عثمان ويا عبد الرحمن ، إن نبيكم كتب إلينا كتابا فأقبلنا مجيبين له ، فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد سلامنا ، وتصدينا لكلامه نهارا طويلا ، فأعيانا أن يكلمنا ، فما الرأي منكما ، أترون أن نرجع؟ فقالا لعلي بن أبي طالب وهو في القوم : ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟ فقال علي لعثمان وعبد الرحمن : أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم ، ويلبسوا ثياب سفرهم ثم يعودون إليه ، ففعلوا فسلموا عليه فرد سلامهم ، ثم قال «والذي بعثني بالحق ، لقد أتوني المرة الأولى وإن إبليس لمعهم». ثم ساءلهم وساءلوه ، فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا له : ما تقول في عيسى ، فإنا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى ، يسرنا إن كنت نبيا أن نسمع ما تقول فيه؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «ما عندي فيه شيء يومي هذا ، فأقيموا حتى أخبركم بما يقول لي ربي في عيسى» فأصبح الغد وقد أنزل الله هذه الآية (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ ـ إلى قوله ـ الْكاذِبِينَ) فأبوا أن يقروا بذلك.
فلما أصبح رسول الله صلىاللهعليهوسلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر ، أقبل مشتملا على الحسن والحسين في خميل له ، وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة ، وله يومئذ عدة نسوة ، فقال شرحبيل لصاحبيه : لقد علمتما أن الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يردوا ولم يصدروا إلا عن رأيي ، وإني والله أرى أمرا ثقيلا ، والله لئن كان هذا الرجل ملكا مبعوثا فكنا أول العرب طعنا في عينيه وردا عليه أمره ، لا يذهب لنا من صدره ولا من صدور أصحابه حتى يصيبونا بجائحة ، وإنا لأدنى العرب منهم جوارا ، ولئن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فلاعناه ، لا يبقى منا على وجه الأرض شعر ولا ظفر إلا هلك ، فقال له صاحباه : فلما الرأي يا أبا مريم؟ فقال : أرى أن أحكمه ، فإني أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا ، فقالا له : أنت وذاك ، قال : فلقي شرحبيل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال له : إني قد رأيت خيرا من ملاعنتك. فقال : وما هو؟ فقال : حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح ، فمهما حكمت فينا فهو جائز ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «لعل وراءك أحدا يثرب (١) عليك»؟ فقال شرحبيل : سل صاحبي ، فسألهما فقالا : ما يرد الوادي ولا يصدر إلا عن رأي شرحبيل. فرجع رسول الله صلىاللهعليهوسلم فلم يلاعنهم حتى إذا كان من الغد أتوه ، فكتب لهم هذا الكتاب «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما كتب النبي محمد رسول الله لنجران ـ إن كان عليهم حكمه ـ في كل ثمرة وكل صفراء وبيضاء وسوداء ورقيق فاضل عليهم ، وترك ذلك كله لهم على ألفي حلة ، في كل رجب ألف حلة ، وفي كل صفر ألف حلة» وذكر تمام
__________________
(١) ثرّب عليه : لامه وعيّره بذنبه.