قالت الحكماء : أما قولكم : إن هذه الأحياز أمور يفرضها العقل (١) ويقدرها الوهم ويحكم بكون الأجسام حاصلة فيها. مع أنه لا وجود لها في نفس الأمر. فهذا الكلام مدفوع في بديهة العقل. وذلك لأن حكم الذهن والعقل بأن هذه الأجسام حاصلة في هذه الأحياز. إما أن يكون حكما مطابقا للوجود الخارجي ، وإما أن لا يكون كذلك. فإن كان الأول كان الجسم في نفسه حاصلا في الحيز ، إلا أن كون الحيز ظرفا للجسم يعتمد (٢) كون الحيز في نفسه أمرا موجودا. لأن العدم المحض يمتنع كونه ظرفا للجسم ، ويمتنع كونه مشارا إليه بحسب الحس ، ويمتنع وصفه بالصغر والكبر ، والطول والقصر ، والقرب والبعد ، والاتصال والانفصال. وإذا كان كذلك ، وجب أن يكون الحيز في نفسه أمرا موجودا [وأما (٣)] إن كان هذا الحكم الذهني غير مطابق للأمر الخارجي في نفسه ، فحينئذ يكون هذا الحكم حكما كاذبا وفرضا باطلا ، وجاريا مجرى ما إذا فرضنا أن هذا الجدار ياقوت ، مع أنه ليس في نفسه كذلك. ومعلوم أن هذا باطل. لأن الجسم في نفسه موصوف بأنه متحرك ، وبأنه ساكن. ولا معنى لكونه متحركا إلا أنه انتقل من حيز إلى حيز ، ومن جهة إلى جهة. ولا معنى لكونه ساكنا إلا أنه استقر في حيز [واحد (٤)] زمانا طويلا. فيثبت : أن قول المتكلمين : إن هذه الأحياز الفارغة أمور لا حصول لها إلا بحسب الوهم والفرض والخيال : كلام باطل.
وأما التقسيم الذي ذكروه من أنه لو كان موجودا ، لكان إما أن يكون موجودا مشارا إليه بحسب الحس ، أو لا يكون [كذلك (٥)] فنقول : إنه عندنا موجود مشار إليه بحسب الحس. وإنه بعد قائم بنفسه ، مستقل بذاته. والأجسام إذا حصلت فيها نفدت أبعاد المتمكن في هذه الأبعاد المسماة بأنها هي الأمكنة والأحياز. فقولهم : إن نفود البعد في البعد محال. فهذا محض الدعوى. وسنتكلم في هذه المسألة بالاستقصاء إن شاء الله تعالى.
__________________
(١) الوهم ويقدرها العقل (ت ، م).
(٤) من (ط ، س).
(٢) يعقد (م) يعقل (ت).
(٥) من (ط ، س).
(٣) من (س).