والذي يحسم مادّة الإشكال أنّه بعد البناء على حجّية كثير من الأخبار المدوّنة في الكتب المعتبرة ، لا يبقى للعلم الإجمالي بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة في الوقائع المشتبهة أثر بالنسبة إلى الوقائع التي لا يمكن استفادة حكمها من تلك الأخبار ، ولا لدعوى أنّ أطراف العلم الإجمالي مخصوصة بتلك الوقائع ، كي يقال إنّ هذه الدعوى مجازفة ، بل للعلم بحجّية كثير من تلك الأخبار ودلالتها على واجبات ومحرّمات كثيرة يحتمل انحصار التكاليف الواقعيّة المعلومة بالإجمال فيها ، وحينئذ لا يبقى لذلك العلم الإجمالي أثر بالنسبة إلى ما لا يمكن استفادة حكمه من تلك الأخبار ، كما تقدّم توضيح ذلك في مبحث حجّية الظنّ ، ففائدة الفحص معرفة خروج الواقعة التي شكّ في حكمها عن الوقائع التي تدلّ تلك الأدلّة على وجوبها أو حرمتها.
هذا ، مع أنّ دعوى اختصاص أطراف العلم الإجمالي بالوقائع المتمكّن من الوصول إلى مدركها غير بعيدة ، فانّ العلم الإجمالي الحاصل لكلّ أحد بوجود تكاليف كثيرة قبل مراجعة الأدلّة ، منشؤه العلم بصدور أخبار كثيرة من النبيّ والأئمّة عليهمالسلام دالّة عليها ، وكون الأخبار الصادرة منهم ممّا دلّ على ثبوت حكم زائدا عمّا وصل إليهم في الكتب المعتبرة غير معلوم.
وإن شئت قلت : إنّ العلم الإجمالي نشأ من العلم بمشاركتنا مع من سبقنا في التكليف ، وهكذا إلى أن بلغ مع من عاصر الأئمّة عليهمالسلام ، ووصل إليهم التكاليف شيئا فشيئا ، ولم يكن لهم علم إجمالي بثبوت تكاليف زائدة على ما علموا به تفصيلا ، فنحن بعد العلم بمشاركتنا معهم في التكليف ، لا يجوز لنا الأخذ بالبراءة إلّا بعد الفحص عن تكليفهم ، والقدر المتيقّن من تكليفهم ليس إلّا التكليف بما أخبروا به ودوّنه العلماء في اصولهم المعتبرة ، فلا يجوز العمل بالبراءة قبل مراجعة تلك الاصول ، وامّا بعد المراجعة فلا مانع عنه.