ولو لم يفدك هذا الكتاب من الأخبار العجيبة والأشعار الظريفة والأمور الغريبة ، لكان فيما يفيدك من أخبار البلدان وعجائب الكور والأمصار بلاغا ومقنعا. فكيف وقد أفادك [١٠٩ أ] علم الماضين وأخبار الأولين. وذلك علم المعنيين. ووقفك على الطريقين وأرشدك إلى الأمرين جميعا : حكمة بالغة وموعظة موجزة. تعرفت منه أخبار الماضين ، وأبنية من قد سلف من الأولين. وفي هذا الخبر الذي أثبته هاهنا عبرة لمن اعتبر وفكرة لمن تفكر ، ودليل على وحدانية الله تعالى ، ومخبر عن آياته وقدرته. فصفّ ذهنك وفرّغ قلبك وأقبل عليه بسمعك وتفكّر فيه ، وفيما تضمنته من الأعجوبة. فإن فيه عبرة لأولي الألباب.
قال عبد الرحمن بن محمد بن نصر : سمعت أحمد بن الحسن يذكر عن علي بن عاصم عن أبيه قال : كان الخضر عليه السلام يأتي شابا زاهدا من بني إسرائيل فيحدثه كما يأتي الرجل أخاه وصديقه. وكان الشاب خيّرا فاضلا. فبلغ ذلك ملك بني إسرائيل ، فأرسل إلى الشام فدعاه وقال : بلغني أن الخضر يأتيك فيحدثك كما يحدث الرجل أخاه. قال الفتى : نعم. قال : فإذا جاء فائتني به. قال : كيف آتيك به أيها الملك؟ قال : والله لتأتيني به أو لأقتلنّك. قال : أجهد. ثم انصرف الفتى.
فلما كان بعد أيام ، أتاه الخضر عليه السلام فقال له : إن ملك بني إسرائيل قال لي كذا وكذا. قال الخضر : انطلق بنا إليه. فانطلقا حتى دخلا عليه. فوقف الخضر فقال له الملك : أنت الخضر؟ قال : نعم. فأعظمه وبجله ثم قال له : حدثني بأعجب ما رأيت في الدنيا. فقال : أعجب ما رأيت ، أني مررت بمدينتك هذه ، وهي مدينة لم أر على وجه الأرض مثلها حسنا وجمالا وكثرة أهل وأسواق وعمارة ، فدنوت من بعض البوابين فقلت : متى بنيت هذه المدينة ومن الذي بناها؟ فقال لي : ما يذكر أحد من الناس متى بنيت ولا من بناها. فتركته ومضيت. وعبرت عنها خمسمائة عام. ثم اجتزت بها فإذا هي تلول وخرابات ولم أر أحدا أسأله عنها. فعلوت بعض تلك التلول ، فإذا أنا براع يرعى غنما فنزلت إليه وسألته عن المدينة ومتى خربت. فقال : ما نعلم أنه كانت هاهنا مدينة قط ، ولا نعرف غير