قوله : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ) (٨) : أي فهم فيما تدعوهم إليه من الهدى بمنزلة الذي في عنقه الغلّ ، فهو لا يستطيع أن يبسط يده ، أي : أنّهم لا يقبلون الهدى ، والمقمح ، فيما ذكروا عن عبد الله بن مسعود ، الذي غلّت يده إلى عنقه. وقال بعضهم : الأذقان : الوجوه ، أي : غلّت يده فهي عند وجهه. وتفسير الحسن : المقمح : الطامح ببصره الذي لا يبصر موطئ قدمه ، أي : حيث يطأ ؛ أي : لا يبصر الهدى. وقال مجاهد : رافعو رؤوسهم وأيديهم موضوعة على أفواههم.
قال : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) : ذكروا عن عكرمة قال : [(مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) قال : ما صنع الله فهو سدّ ، وما صنع ابن آدم فهو سدّ] (١). وقد قالوا : (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصّلت : ٥] أي : فلا نبصر ما تقول.
قال : (فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (٩) : أي الهدى. وهذا كلّه كقوله : (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) فلا يبصر الهدى بالكفر الذي عليه. قال : (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) [الجاثية : ٢٣] أي : لا أحد يهديه بعد أن يضلّه الله بفعله (٢).
وبعضهم يقول : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا) أي : ما كان عليه آباؤهم (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) أي : من خلف آبائهم (سَدًّا) يعنيهم ؛ وهو تكذيبهم بالبعث. (فَأَغْشَيْناهُمْ) يعني ظلمة الكفر بكفرهم ، (فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) أي : لا يبصرون الهدى.
قوله : (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (١٠) : يعني الذين لا يؤمنون. (إِنَّما تُنْذِرُ) : أي إنّما يقبل نذارتك فينتذر ، أي : فيتّعظ (مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) : يعني القرآن (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) : كقوله : (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) [فاطر : ١٨] وقوله : (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) أي : في السّرّ ، فأخلص لله القول والعمل.
قال : (فَبَشِّرْهُ) : أي فبشّر هذا (بِمَغْفِرَةٍ) : أي لذنبه (وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) (١١) : أي وثواب
__________________
(١) زيادة من سح ورقة ١٧٣.
(٢) ذكر الفرّاء سببا لنزول هذه الآية فقال في المعاني ، ج ٢ ص ٢٧٣ : «ونزلت هذه الآية في قوم أرادوا قتل النبيّ صلىاللهعليهوسلم من بني مخزوم ، فأتوه في مصلّاه ليلا ، فأعمى الله أبصارهم عنه ، فجعلوا يسمعون صوته بالقرآن ولا يرونه. فذلك قوله : (فَأَغْشَيْناهُمْ) وتقرأ : (فَأَغْشَيْناهُمْ) بالعين ، أعشيناهم عنه».