لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ) وأوهمهم تحقيق أمنيتهم بأن بصرهم أن لا غالب عليهم من ناس الحواس فكذا سائر القوى. (وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) أمدّكم وأقوّيكم وأمنعكم من ناس القوى الروحانية (فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) لشعوره بحال القوى الروحانية وغلبتها لمناسبته إياها بإدراك المعاني. (وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ) لأني لست من جنسكم (إِنِّي أَرى) من المعاني ووصول المدد إليهم من سماء الروح وملكوت عالم القدس (ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ) لشعوري ببعض أنواره وقهره (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) وفيه إشارة إلىقول سيد المرسلين : «لكل أحد شيطان ، ولكن شيطاني أسلم على يديّ». وهذا هو الدستور والأنموذج في أمثال ذلك إن أراد مريد تطبيق القصص على أحواله ، لكني قلما أعود إلى مثله بعد هذا لقلة الفائدة إلا في تصوير طريق السلوك وتخييل المبتدئ ما هو بصدده لتنشيطه في الترقي والعروج والله الهادي.
[٥٠ ـ ٥٢] (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢))
(وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ) مرّ توفي الملائكة وأنه لا يكون إلا لمن هو في مقام النفس ، فإن كان من العصاة ومن غلب عليه صفات النفس من الغضب والحقد والشهوة والحرص وأمثال ذلك من رذائل الأخلاق وتوفّتهم ملائكة القهر والعذاب مما يناسب هيئات نفوسهم (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ) لاحتجابهم عن عالم الأنوار وإعراضهم عنها ، ولهيئات الكبر والعجب والنخوة فيها (وَأَدْبارَهُمْ) لميلهم وشدّة انجذابهم إلى البدن وعالم الطبيعة ولهيئات الشهوة والحرص والشره (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي : حريق الحرمان واستيلاء نيران التعب والطلب مع الفقدان لاكتسابهم تلك الهيئات الموجبة لذلك وإن كان من أهل الطاعة ومن غلبت عليه أنوار صفات القلب من الرأفة والرحمة والسلامة والقناعة وأمثال ذلك من فضائل القوّتين السبعية والبهيمية دون فضيلة القوة النطقية فإنه حينئذ يكون صاحب قلب ليس في مقام النفس توفتهم ملائكة الرحمة (طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١) لمناسبة هيئات نفوسهم تلك الروحانيات من العالم.
[٥٣ ـ ٦٢] (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ
__________________
(١) سورة النحل ، الآية : ٣٢.