(خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) أي : كانوا في رتبة النفس اللوّامة التي لم يصر اتصالها بالقلب وتنوّرها بنوره ملكة ولم يتذلل بعد في طاعتها للقلب ، فتارة يستولي عليها القلب فتتذلل وتنقاد وتتنوّر بنوره وتعمل أعمالا صالحة ، وتارة تظهر بصفاتها الحاجبة لنور القلب عنها وتحتجب بظلمتها فتفعل أفعالا سيئة ، فإن ترجحت الأنوار القلبية والأعمال الصالحة وتعاقبت عليها الخواطر الملكية حتى صار اتصالها بالقلب وطاعتها إياه ملكة صلح أمرها ونجت وذلك معنى قوله : (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) وإن ارتكمت عليها الهيئات المظلمة المكتسبة من غلباتها وكثرة إقدامها على السيئات كان الأمر بالعكس فزال استعدادها بالكلية وحق عذابها أبدا. وترجح أحد الجانبين على الآخر لا يكون إلا بالصحبة ومجالسة أصحاب كل واحد من الصنفين ومخالطة الأخيار والأشرار ، فإن أدركه التوفيق ساقه القدر إلى صحبة الصالحين ومتابعة أخلاقهم وأعمالهم فيصير منهم ، وإن لحقه الخذلان ساقه إلى صحبة المفسدين واختلاطه بهم فيصير من الخاسرين أعاذنا الله من ذلك.
(إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يغفر لهم السيئات المظلمة ويسترها عنهم (رَحِيمٌ) يرحمهم بالتوفيق للصالحات وقبول التوبة ولما وفقوا للقسم الأول ببركة صحبة الرسول وتزكيته إياهم وتربيته لهم قال : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) إذ المال هو سبب ظهور النفس وغلبة صفاتها ومدد قواها ومادة هواها كماقال عليه الصلاة والسلام : «المال مادة الشهوات»فينبغي أن يكون أول حالهم التجرّد عن الأموال لتنكسر قوى النفس وتضعف أهواؤها وصفاتها ، فتتزكى من الهيئات المظلمة التي فيها وتتطهر من خبث الذنوب ورجس دواعي الشيطان وذلك معنى قوله : (تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) بإمداد الهمة وإفاضة نور الصحبة عليهم (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) أي : إن نورك الذي تفيض عليهم بالتفات خاطرك إليهم وقوة همتك وبركة صحبتك سبب نزول السكينة فيهم تسكن قلوبهم إليه وتطمئن. والسكينة نور مستقرّ في القلب يثبت معه في التوجه إلى الحق ويتقوّى اليقين ويتخلص عن الطيش بلمات الشيطان ووساوسه وأحاديث النفس وهواجسها لعدم قبوله لها حينئذ (وَاللهُ سَمِيعٌ) يسمع تضرّعهم واعترافهم بذنوبهم (عَلِيمٌ) يعلم نياتهم وعزائمهم وما في ضمائرهم من الندم والغمّ.
[١٠٨ ـ ١١٠] (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠))