(لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى) لما كان عالم الملك تحت قهر عالم الملكوت وتسخيره لزم أن يكون لنيات النفوس وهيئاتها تأثير فيما يباشرها من الأعمال فكل ما فعل بنية صادقة لله تعالى عن هيئة نورانية صحبته بركة ويمن وجمعية وصفا ، وكل ما فعل بنية فاسدة شيطانية عن هيئة مظلمة صحبته تفرقة وكدورة ومحق وشؤم. ألا ترى الكعبة كيف شرفت وعظمت وجعلت متبركة لكونها مبنية على يدي نبيّ من أنبياء الله بنيّة صادقة ونفس شريفة صافية عن كمال إخلاص لله تعالى. ونحن نشاهد أثر ذلك في أعمال الناس ونجد أثر الصفاء والجمعية في بعض المواضع والبقاع ، والكدورة والتفرقة في بعضها وما هو إلا لذلك ، فلهذا قال : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى) ، (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) لأن الهيئات الجسمانية مؤثرة في النفوس كما أن الهيئات النفسانية مؤثرة في الأجسام ، فإذا كان موضع القيام مبنيا على التقوى وصفاء النفس تأثرت النفس باجتماع الهم وصفاء الوقت وطيب الحال وذوق الوجدان ، وإذا كان مبنيا على الرياء والضرار تأثرت بالكدورة والتفرقة والقبض (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) أي : أهل إرادة وسعي في التطهر عن الذنوب نبّه على أن صحبة الصالحين من أهل الإرادة لها أثر عظيم يجب أن تختار وتؤثر على غيرها. كما أن المقام له أثر يجب أن يراعى ويتعاهد ولهذا ورد في اصطلاح القوم : يجب مراعاة الزمان والمكان والإخوان في حصول الجمعية وجعلوها شرطا لها وفيه إشعار بأن زكاء نفس الباني وصدق نيته مؤثر في البناء وإن تبرّك المكان وكونه مبنيا على الخير يقتضي أن يكون فيه أهل الخير والصلاح ممن يناسب حاله حال بانيه ، وإن محبة الله واجبة لأهل الإرادة والطهارة لقوله : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) كيف ولو لا محبة الله إياهم لما أحبوا التطهر.
[١١١ ـ ١١٢] (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢))
(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) لما هداهم إلى الإيمان العلميّ وهم مفتونون بمحبة الأموال والأنفس استنزلهم لفرط عنايته بهم عن مقام محبة الأموال والأنفس بالتجارة المربحة والمعاملة المرغوبة بأن جعل جنة النفس ثمن أموالهم وأنفسهم ليكون الثمن من جنس المثمن الذي هو مألوفهم لكنه ألذ وأشهى وأرغب وأبقى ، فرغبوا فيما عنده وصدقوا لقوة اليقين وعده. ثم لما ذاقوا بالتجرّد عنها لذة الترك وحلاوة نور اليقين رجعوا عن مقام لذة