النفس وتابوا عن هواها ومشتهياتها فلم يبق عندهم لجنة النفس قدر ، فوصفهم بالتائبين بالحقيقة الراجعين عن طلب ملاذ النفس وتوقع الأجر إليه ، العابدين الذين إذا رجعوا عن محبة النفس والمال وطلب الأجر والثواب ، عبدوا الله حق عبادته لا لرغبة ولا لرهبة بل تشبها بملكوته في القيام بحقه تعالى بالخضوع والخشوع والتذلل لعظمته وكبريائه تعظيما وإجلالا ثم حمدوا الله حق حمده بإظهار الكمالات العملية الخلقية والعملية المكنونة في استعداداتهم بالقوة حمدا فعليا حاليا ثم ساحوا إليه بالهجرة عن مقام الفطرة ورؤية الكمالات الثابتة وتآلفهم واعتدادهم وابتهاجهم بها في مفاوز الصفات ومنازل السبحات ثم ركعوا في مقام محو الصفات ثم سجدوا بفناء الذات ، ثم قاموا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمحافظة على حدود الله في مقام البقاء بعد الفناء (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بالإيمان الحقيقي المقيمين في مقام الاستقامة.
[١١٣ ـ ١١٤] (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤))
(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا) إلى آخره ، أي : لما اطلعوا على سرّ القدر ووقفوا على ما قضى الله وقدّر ، وعلموا بما ينتهي إليه عواقب الأمور ، لم يكن لهم أن يطلبوا خلاف ذلك ورضوا بما دبّر الله من أمره وإن كان في طبيعتهم ما يقتضي خلافه لأنهم قد انسلخوا عن مقتضيات طباعهم فإن اقتضت القرابة الطبيعية واللحمة الصورية فرط شفقة ورقة على بعض من يناسبهم ويواصلهم فيها وشاهدوا حكم الله عليه بالقهر والتعذيب ، حملتهم الحمية الدينية على الصبر إن لم يكن لهم مقام الرضا بل غلبتهم المباعدة الدينية على القرابة الطبيعية فتبرؤوا منه ولم يقترحوا على الله خلاف حكمته وأمره ولهذا قيل : لا تؤثر همة العارف بعد كمال عرفانه أي إذا تيقن وقوع كل شيء بقدره وامتناع وقوع خلاف ما قدّر الله في الأزل علم أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، ولا تؤثر همته ولا غيرها في شيء ، فلا يسلط همته على أمر بخلاف المحجوب الذي ينسب التأثير إلى غير الله ولا يعلم سرّ القدر.
[١١٥ ـ ١١٨] (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦) لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨))