الْمُجْرِمِينَ) أي : مثل ذلك السلك سلكناه ، أي : أدخلناه في قلوبهم ، يعني : القرآن حتى فهموا معانيه ، وعرفوا فصاحته ، وأنه معجز. وقال الحسن وغيره : سلكنا الشرك ، والتكذيب ، في قلوب المجرمين. وقال عكرمة : سلكناه القسوة. والأوّل : أولى ، لأن السياق في القرآن وجملة (لا يُؤْمِنُونَ) تحتمل على وجهين : الأوّل : الاستئناف على جهة البيان ، والإيضاح لما قبلها ، والثاني : أنها في محل نصب على الحال من الضمير في سلكناه ، ويجوز أن يكون حالا من المجرمين. وأجاز الفراء الجزم في لا يؤمنون ، لأنه فيه معنى الشرط والمجازاة ، وزعم أن من شأن العرب ، إذا وضعت لا موضع كيلا مثل هذا ربما جزمت ما بعدها ، وربما رفعت ، فتقول ربطت الفرس لا ينفلت بالرفع ، والجزم ، لأن معناه : إن لم أربطه ينفلت ، وأنشد لبعض بني عقيل :
وحتّى رأينا أحسن الفعل بيننا |
|
مساكنة لا يقرف الشّرّ قارف |
بالرفع ، ومن الجزم قول الآخر :
لطالما حلّأتماها لا ترد |
|
فخلّياها والسّجال تبترد (١) |
قال النحاس : وهذا كله في لا يؤمنون ، خطأ عند البصريين ، ولا يجوز الجزم بلا جازم (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي : لا يؤمنون إلى هذه الغاية ، وهي مشاهدتهم للعذاب الأليم (فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) أي : فجأة «و» الحال أنّهم (لا يَشْعُرُونَ) بإتيانه ، وقرأ الحسن فتأتيهم بالفوقية ، أي : الساعة ، وإن لم يتقدّم لها ذكر ، لكنه قد دلّ العذاب عليها (فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) أي : مؤخرون وممهلون. قالوا هذا تحسرا على ما فات من الإيمان ، وتمنيا للرجعة إلى الدنيا ، لاستدراك ما فرط منهم. وقيل : إن المراد بقولهم : (هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) الاستعجال للعذاب على طريقة الاستهزاء لقوله : (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) ولا يخفى ما في هذا من البعد والمخالفة للمعنى الظاهر ، فإن معنى (هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) طلب النظرة والإمهال ، وأما قوله : (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) فالمراد به الردّ عليهم ، والإنكار لما وقع منهم من قولهم : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٢) وقولهم : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) (٣) (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ) الاستفهام للإنكار ، والفاء للعطف على مقدّر يناسب المقام ، كما مرّ في غير موضع ، ومعنى أرأيت : أخبرني ، والخطاب لكل من يصلح له ، أي : أخبرني إن متعناهم سنين في الدنيا متطاولة ، وطوّلنا لهم الأعمار (ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ) من العذاب والهلاك (ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) ما : هي الاستفهامية ، والمعنى : أي : شيء أغنى عنهم ، كونهم ممتعين ذلك التمتع الطويل ، و «ما» في ما كانوا يمتعون يجوز أن تكون المصدرية ، ويجوز أن تكون الموصولة ، والاستفهام للإنكار التقريري ، ويجوز أن تكون ما الأولى نافية ، والمفعول محذوف ، أي : لم يغن عنهم تمتيعهم شيئا ، وقرئ يمتعون بإسكان الميم ، وتخفيف التاء من أمتع الله
__________________
(١). حلّأها : منعها من ورود الماء. والسّجال : جمع سجل ، وهو الدلو الضخمة المملوءة ماء. وتبترد : تشرب الماء لتبرد به كبدها.
(٢). الأنفال : ٣٢.
(٣). الأعراف : ٧٠.