بما يغيب وما يحضر ، فهو مجاز لكل عامل بعمله ، أو : فهو يدبر الأمر بما تقضيه حكمته (الْعَزِيزُ) القاهر الغالب (الرَّحِيمُ) بعباده ، وهذه أخبار لذلك المبتدأ ، وكذلك قوله : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) هو خبر آخر. قرأ الجمهور «خلقه» بفتح اللام. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر بإسكانها ، فعلى القراءة الأولى : هو فعل ماض نعتا لشيء ، فهو في محل جرّ ، وقد اختار قراءة الجمهور أبو عبيد ، وأبو حاتم ، ويجوز أن تكون صفة للمضاف ، فيكون في محل نصب. وأما على القراءة الثانية : ففي نصبه أوجه : الأوّل أن يكون بدلا من كلّ شيء بدل اشتمال ، والضمير عائد إلى كلّ شيء ، وهذا هو الوجه المشهور عند النحاة. الثاني : أنه بدل كلّ من كلّ ، والضمير راجع إلى الله سبحانه ؛ ومعنى أحسن : حسن ، لأنه ما من شيء إلا وهو مخلوق على ما تقتضيه الحكمة ، فكل المخلوقات حسنة. الثالث : أن يكون كلّ شيء هو المفعول الأوّل ، وخلقه : هو المفعول الثاني على تضمين أحسن : معنى أعطى ، والمعنى : أعطى كلّ شيء خلقه الذي خصه به. وقيل : على تضمينه معنى ألهم. قال الفراء : ألهم خلقه كلّ شيء مما يحتاجون إليه. الرابع : أنه منصوب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة ، أي : خلقه خلقا كقوله : (صُنْعَ اللهِ) (١) وهذا قول سيبويه ، والضمير : يعود إلى الله سبحانه. والخامس : أنه منصوب بنزع الخافض ، والمعنى أحسن كلّ شيء في خلقه ، ومعنى الآية : أنه أتقن وأحكم خلق مخلوقاته ، فبعض المخلوقات وإن لم تكن حسنة في نفسها ، فهي متقنة محكمة ، فتكون هذه الآية معناها معنى : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) (٢) أي : لم يخلق الإنسان على خلق البهيمة ، ولا خلق البهيمة على خلق الإنسان ، وقيل : هو عموم في اللفظ خصوص في المعنى ، أي : أحسن خلق كلّ شيء حسن (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) يعني : آدم خلقه من طين ، فصار على صورة بديعة ، وشكل حسن (جَعَلَ نَسْلَهُ) أي : ذريته (مِنْ سُلالَةٍ) سميت الذرية سلالة : لأنها تسلّ من الأصل ، وتنفصل عنه ، وقد تقدم تفسيرها في سور المؤمنين ؛ ومعنى (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) من ماء ممتهن ؛ لا خطر له عند الناس وهو المنيّ. وقال الزجاج : من ماء ضعيف (ثُمَّ سَوَّاهُ) أي : الإنسان الذي بدأ خلقه من طين ، وهو آدم ، أو جميع النوع ، والمراد : أنه عدل خلقه ، وسوّى شكله ، وناسب بين أعضائه (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) الإضافة للتشريف ، والتكريم ، وهذه الإضافة تقوّي أن الكلام في آدم ، لا في ذريته ، وإن أمكن توجيهه بالنسبة إلى الجميع. ثم خاطب جميع النوع فقال : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي : خلق لكم هذه الأشياء تكميلا لنعمته عليكم ، وتتميما لتسويته لخلقكم حتى تجتمع لكم النعم ، فتسمعون كلّ مسموع ، وتبصرون كلّ مبصر ، وتتعقلون كلّ متعقل ، وتفهمون كلّ ما يفهم ، وأفرد السمع لكونه مصدرا يشمل القليل والكثير ، وخص السمع بذكر المصدر دون البصر ، والفؤاد بذكرهما بالاسم ولهذا جمعا ، لأن السمع قوّة واحدة ولها محل واحد ، وهو الأذن ولا اختيار لها فيه ، فإن الصوت يصل إليها ، ولا تقدر على رده ، ولا على تخصيص السمع ببعض المسموعات دون بعض ؛ بخلاف الأبصار فمحلها العين وله فيه اختيار ، فإنها تتحرّك إلى جانب المرئي دون غيره ، وتطبق أجفانها إذا لم ترد الرؤية لشيء ؛ وكذلك الفؤاد له نوع اختيار في إدراكه ،
__________________
(١). النمل : ٨٨.
(٢). طه : ٥٠.