هذه السورة (وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا) هذه الجملة معطوفة على الجملة الأوّلى ، والمراد بالسادة والكبراء : هم الرؤساء ، والقادة الذين كانوا يمتثلون أمرهم في الدنيا ويقتدون بهم ، وفي هذا زجر عن التقليد شديد. وكم في الكتاب العزيز من التنبيه على هذا ، والتحذير منه ، والتنفير عنه ، ولكن لمن يفهم معنى كلام الله ، ويقتدي به ، وينصف من نفسه ، لا لمن هو من جنس الأنعام ، في سوء الفهم ، ومزيدة البلادة ، وشدّة التعصب. وقرأ الحسن وابن عامر «ساداتنا» بكسر التاء جمع سادة ، فهو جمع الجمع. وقال مقاتل : هم المطعمون في غزوة بدر ، والأوّل أولى ، ولا وجه للتخصيص بطائفة معينة (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) أي عن السبيل بما زينوا لنا من الكفر بالله ورسوله ، والسبيل هو التوحيد ، ثم دعوا عليهم في ذلك الموقف فقالوا : (رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ) أي : مثل عذابنا مرتين. وقال قتادة : عذاب الدنيا والآخرة ، وقيل : عذاب الكفر ، وعذاب الإضلال (وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) قرأ الجمهور «كثيرا» بالمثلثة ، أي : لعنا كثير العدد ، عظيم القدر ، شديد الموقع ، واختار هذه القراءة أبو حاتم ، وأبو عبيد ، والنحاس ، وقرأ ابن مسعود وأصحابه ، ويحيى بن وثاب وعاصم بالباء الموحدة ، أي : كبيرا في نفسه شديدا عليهم ثقيل الموقع.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قال : خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها ، وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها ، فرآها عمر فقال : يا سودة أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين ، قالت : فانكفأت راجعة ، ورسول الله صلىاللهعليهوسلم في بيتي وإنه ليتعشى وفي يده عرق ، فدخلت وقالت : يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر كذا وكذا ، فأوحي إليه ثم رفع عنه ، وإن العرق في يده ما وضعه فقال : إنه قد أذن لكنّ أن تخرجن لحاجتكنّ ، وأخرج سعيد بن منصور ، وابن سعد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي مالك قال : كان نساء النبيّ صلىاللهعليهوسلم يخرجن بالليل لحاجتهن ، وكان ناس من المنافقين يتعرّضون لهن فيؤذين ، فقيل ذلك للمنافقين ، فقالوا : إنما نفعله بالإماء ، فنزلت هذه (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) الآية ، وأخرج ابن سعد عن محمّد بن كعب القرظي قال : كان رجل من المنافقين يتعرّض لنساء المؤمنين يؤذيهن ، فإذا قيل له : قال كنت أحسبها أمة ، فأمرهن الله أن يخالفن زيّ الإماء ويدنين عليهم من جلابيبهنّ تخمر وجهها إلا إحدى عينيها (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ) يقول : ذلك أحرى أن يعرفن. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في هذه الآية قال : أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وأبو داود ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن أمّ سلمة قالت : لما نزلت هذه الآية (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) خرج نساء الأنصار كأن رؤوسهن الغربان من السكينة ، وعليهن أكسية سود يلبسنها ، هكذا في الزوائد بلفظ من السكينة ، وليس لها معنى ، فإن المراد تشبيه الأكسية السود : بالغربان ، لا أن المراد وصفهن بالسكينة كما يقال : كأن على رؤوسهم الطير. وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : رحم الله نساء الأنصار لما نزلت (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) الآية شققن مروطهن ، فاعتجرن بها وصلين خلف رسول الله صلىاللهعليهوسلم كأنما على رؤوسهن الغربان. وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس