الخافض ، أي : لأن يقول أو كراهة أن يقول ، وجملة (وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ) في محل نصب على الحال ، أي : والحال أنه قد جاءكم بالمعجزات الواضحات ، والدلالات الظاهرات على نبوّته ، وصحة رسالته ، ثم تلطف لهم في الدفع عنه فقال : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) ولم يكن قوله هذا لشك منه ، فإنه كان مؤمنا كما وصفه الله ، ولا يشك المؤمن ، ومعنى (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) أنه إذا لم يصبكم كله فلا أقلّ من أن يصيبكم بعضه ، وحذفت النون من يكن في الموضعين تخفيفا لكثرة الاستعمال : كما قال سيبويه ، وقال أبو عبيدة وأبو الهيثم : بعض هنا بمعنى كلّ : أي يصبكم كلّ الذي يعدكم ، وأنشد أبو عبيد على هذا قول لبيد :
ترّاك أمكنة إذا لم أرضها |
|
أو يرتبط بعض النّفوس حمامها |
أي كلّ النفوس ، وقد اعترض عليه ، وأجيب بأن البعض قد يستعمل في لغة العرب بمعنى الكلّ كما في قول الشاعر :
قد يدرك المتأنّي بعض حاجته |
|
وقد يكون مع المستعجل الزّلل |
وقول الآخر :
إنّ الأمور إذا الأحداث دبّرها |
|
دون الشّيوخ ترى في بعضها خللا |
وليس في البيتين ما يدلّ على ما زعموه ، وأما بيت لبيد فقيل إنه أراد ببعض النفوس نفسه ، ولا ضرورة تلجئ إلى حمل ما في الآية على ذلك ، لأنه أراد التنزّل معهم وإيهامهم أنه لا يعتقد صحة نبوّته كما يفيده قوله : (يَكْتُمُ إِيمانَهُ) قال أهل المعاني : وهذا على المظاهرة في الحجاج ، كأنه قال لهم : أقلّ ما يكون في صدقه أن يصيبكم بعض الذي يعدكم ، وفي بعض ذلك هلاككم ، فكأن الحاصل بالبعض هو الحاصل بالكل : وقال الليث : بعض هاهنا صلة يريد يصبكم الذي يعدكم ، وقيل : يصبكم هذا العذاب الذي يقوله في الدنيا وهو بعض ما يتوعدكم به من العذاب ، وقيل : إنه وعدهم بالثواب والعقاب ، فإذا كفروا أصابهم العقاب ، وهو بعض ما وعدهم به (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) هذا من تمام كلام الرجل المؤمن ، وهو احتجاج آخر ذو وجهين : أحدهما أنه لو كان مسرفا كذابا لما هداه الله إلى البينات ولا أيده بالمعجزات ، وثانيهما أنه إذا كان كذلك خذله الله وأهلكه ، فلا حاجة لكم إلى قتله ، والمسرف المقيم على المعاصي المستكثر منها ، والكذاب المفتري (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ) ذكرهم ذلك الرجل المؤمن ما هم فيه من الملك ليشكروا الله ولا يتمادوا في كفرهم ، ومعنى ظاهرين : الظهور على الناس والغلبة لهم والاستعلاء عليهم ، والأرض أرض مصر ، وانتصاب ظاهرين على الحال (فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا) أي : من يمنعنا من عذابه ويحول بيننا وبينه عند مجيئه ، وفي هذا تحذير منه لهم من نقمة الله بهم ، وإنزال عذابه عليهم ، فلما سمع فرعون ما قاله هذا الرجل من النصح الصحيح جاء بمراوغة يوهم بها قومه أنه لهم من النصيحة والرعاية بمكان مكين ، وأنه لا يسلك بهم إلا مسلكا يكون فيه جلب النفع لهم ، ودفع الضرّ عنهم ، ولهذا قال : (ما