ابن عرفة : كررت هذه القصص في القرآن كثيرا ؛ وذلك لكثرة الوفود الواردين على النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ؛ فيسمعوا قوم ولم يسمعها آخرون ، فأنزلت القصة عليه لأجلهم بلفظ آخر ، إما بحسب اختلاف الأذهان والعقول ، وإما لأن الإخبار بها إذا أنزلت بلفظ آخر خاص بالنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم لا يسمع من غيره ، بخلاف ما لو نزلت بلفظها الأول لكان يقول بعض الصحابة ممن سمعها قبل ذلك يشارك النبي صلىاللهعليهوسلم في الإخبار بها للوفود الواردين عليه.
قال : والآيات المعجزات والسلطان المبين راجع إلى التحدي بها والاحتجاج ، فهو من قبيل الإرجاع ، كقولك : جاءني الشيخ والرجل الصالح ، أو يكون السلطان راجع إلى ظهور المعجزة إلا المقترح ، قال : وليس من شرطها ظهورها أو راجع إلى نتيجتها ، قوله تعالى : (لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ) [سورة الروم : ٥٧] يحتمل أن يكون من باب العدم والملكة ؛ فهم يعبدون ولا ينفعهم ، أو من باب السلب والإيجاب ؛ مثل الحائط لا يبصر فهم لا قدرة لهم على العبادة بوجه.
قوله تعالى : (فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ).
إما أن بعضهم ، قال (ساحِرٌ) ، وبعضهم قال : (كَذَّابٌ) ، أو كل واحد منهم قال ذلك ، وهل المراد (كَذَّابٌ) بالإطلاق ، أو كذب في سحره إشارة إلى أن سحره توبة وتقوى وليس بحقيقي ؛ لأن السحر عندهم محمود ، إذ هو علم من العلوم ، وعلى هذا فيكون أطلق الكذب على الفعل ، وقد تقدم في حديث سليمان ؛ حيث كان يظهر أنه يفعل ولا يفعل ، أنه يؤخذ منه عدم إطلاق الكذب على الفعل ، وظاهر كلام ابن التلمساني في باب الإخبار في صحة إطلاق الكذب عليه ونحوه لابن عطية في قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) [سورة مريم : ٤١].
قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ) الحق (مِنْ عِنْدِنا).
مع ما قبلها إشكال ؛ لإيهامه إنه قبل ذلك ولم يكن جاءهم ، كقولهم : جئت زيدا ، فلما أخبرته بقصة عمرو خرج مسافرا ، فمفهومه أنه قبل المجيء لم يخبره بذلك ، فيلزم منه أنه يجيبهم بالحق ، قيل ذلك بدليل قوله تعالى : (فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ) ، والجواب : إنه أولا لم يدعهم إلى الإيمان ، بل أتى بالمعجزات فقط ، ثم لما دعاهم إلى الإيمان ، قالوا ذلك ، واعلم أن المبتدأ لا يحذف إلا إذا كان الخبر لا يصلح له ؛ وكذلك هذا هو عندهم لا يصح أن يوصف بالسحر إلا هذا الرجل.
قوله تعالى : (وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ).