ولا يوسع في الإنفاق توسيعا لا حاجة إليه بحيث يكون به مسرفا ، فهو نهي عن جانبي الإفراط والتفريط ، ويحصل من ذلك مشروعية التوسط وهو العدل الذي ندب الله إليه.
ولا تك فيها مفرطا أو مفرّطا |
|
كلا طرفي قصد الأمور ذميم |
وقد مثّل الله سبحانه في هذه الآية حال الشحيح بحال من كانت يده مغلولة إلى عنقه بحيث لا يستطيع التصرف بها ؛ ومثّل حال من يجاوز الحد في التصرف بحال من يبسط يده بسطا لا يتعلق بسببه فيها شيء مما تقبض الأيدي عليه ، وفي هذا التصوير مبالغة بليغة.
ثم بين سبحانه غاية الطرفين المنهي عنهما فقال :
(فَتَقْعُدَ مَلُوماً) : عند الناس بسبب ما أنت عليه من الشح (١).
(مَحْسُوراً (٢٩)) : بسبب ما فعلته من الإسراف ، أي منقطعا عن المقاصد بسبب الفقر (٢).
والمحسور في الأصل : المنقطع عن السير.
وقيل : معناه نادما على ما سلف.
[الآية الثانية]
(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣)).
(وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً) : أي لا لسبب من الأسباب المسوغة لقتله شرعا.
(فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) : أي لمن يلي أمره من ورثته إن كانوا موجودين ، أو ممن له سلطان إن لم يكونوا موجودين ، والسلطان التسلّط على القاتل إن شاء قتل وإن
__________________
(١) قال عكرمة وقتادة : أي تقعد نادما. (النحاس ٣ / ١٤٦).
(٢) قال الزجاج : المحسور : الذي قد بلغ الغاية في التّعب والإعياء ، وقال ابن قتيبة : (مَحْسُوراً) منقطعا ، تحسرك العطيّة وتقطعك ، كما يحسر السّفر البعير فيبقى منقطعا به اه.
وقال القاضي أبو يعلى : وهذا الخطاب أريد به غير الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لأنه لم يكن يدّخر شيئا لغد ، وكان يجوع حتى يشدّ الحجر على بطنه ، وقد كان كثير من فضلاء الصحابة ينفقون جميع ما يملكون ، فلم ينههم الله ، لصحة يقينهم ، وإنما نهى من خيف عليه التحسّر على ما خرج من يده ، فأما من وثق بوعد الله تعالى فهو غير مراد بالآية. زاد المسير ٥ / اه. (٣٠).