فإذا كان ذلك من طبائع الأمم التي أحاطت بالبلاد العربية ، وتغلغلت فيها ، ونزل القرآن لجميع الناس من عرب ، وعجم ، كان لا بدّ أن يكون على منهج يلذّه الأمم ، ويكون فيه ما يألفون. وستجد أنه لا نسبة بين الرموز التي في أوائل السور ، وبين الجمل عند اليهود ، ورموز النصارى ، إلا كالنسبة بين علم الرجل العاقل ، والصبي ؛ أو بين علم العلماء ، وعلم العامّة. وبهذا تبين لك أن اليهود ، والنصارى كان لهم رموز ، وكانت رموز اليهود هي حروف الجمّل.
قال ابن عباس «رضي الله عنهما» : مرّ أبو ياسر بن أخطب برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وهو يتلو سورة البقرة : (الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) ثم أتى أخوه حييّ بن أخطب ، وكعب بن الأشرف ، فسألوه عن (الم) وقالوا : ننشدك الله الذي لا إله إلا هو أحقّ أنها أتتك من السماء؟ فقال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : نعم. كذلك نزلت. فقال حييّ : إن كنت صادقا إني لأعلم أجل هذه الأمة من السنين. ثم قالوا : كيف ندخل في دين رجل دلّت هذه الحروف بحساب الجمل على أن منتهى أجل أمته إحدى وسبعون سنة ، فضحك النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم. فقال حييّ : فهل غير هذا؟ فقال : نعم (المص). فقال حييّ : هذا أكثر من الأول : هذا مائة وإحدى وستون سنة. فهل غير هذا؟ قال : نعم (الر) فقال حييّ : هذا أكثر من الأولى والثانية ، فنحن نشهد إن كنت صادقا ما ملكت أمتك إلا مائتين وإحدى وثلاثين سنة. فهل غير هذا؟ فقال : نعم (المر). قال حييّ : فنحن نشهد أنّا من الذين لا يؤمنون ، ولا ندري بأيّ أقوالك نأخذ. فقال أبو ياسر : أما أنا فأشهد على أن أنبياءنا قد أخبرونا عن ملك هذه الأمة ، ولم يبيّنوا أنهاكم تكون؟ فإن كان محمد صادقا فيما يقول ، إني لأراه سيجتمع له هذا كله. فقام اليهود ، وقالوا اشتبه علينا أمرك كله فلا ندري أبا لقليل نأخذ أم بالكثير؟
فبهذا تعرف أيها الذكيّ أن الجمّل كانت للتعارف عند اليهود ، وهو نوع من الرموز الحرفية ، فكانت هذه الحروف لا بدّ من نزولها في القرآن ؛ ليأخذ الناس في فهمها كل مذهب ، ويتصرف الفكر فيها.