أولا : فهم قد فقدوا الدليل ، والحجة ، والبرهان على أنّ الرسول «صلىاللهعليهوآلهوسلم» قد تعلم القرآن من الراهب بحيرا. وهم لم يتجاوزوا الادعاء باللفظ ، والتلاعب بالقول. ولو أنّهم صدقوا على ما ادعوا ، وافتروا ، لأدلوا بدلوهم في مجال هذه الشبهة التعليمية ، وهم الأحرص على نجاح دعوتهم ، وتهمتهم. ولكن هل فعلوا ، وهل قدموا الدليل أو البرهان؟! كلا ، وألف كلا. فهؤلاء هم الخراصون ، وقتل الخراصون. مصداق قوله تعالى فيهم : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ) سورة الذاريات ـ الآيات ١٠ ـ ١١.
قتل الخراصون : أي لعن الكذابون الذين كذبوا على الله ، وعلى الرسول «صلىاللهعليهوآلهوسلم» ، وعلى أنفسهم ، وقالوا : إنّ القرآن من البشر ، وليس من عند الله ؛ كفرا بآيات الله ، وهداياته. قال ابن الأنباري : «والقتل بمعنى اللعنة ؛ لأنّ من لعنه الله ، بمنزلة الهالك المقتول» (١). وهم ، وقد فقدوا الدليل ، والبرهان ، فقد صدق فيهم قول ربنا : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) النمل ٦٤.
ثانيا : من الثابت بالعلم ، والنقل ، والتاريخ أن الرسول «صلىاللهعليهوآلهوسلم» لم يقابل بحيرا الراهب إلّا مرة واحدة في حياته ، وذلك أثناء رحلة له في تجارة مع عمه أبي طالب في بصرى من بلاد الشام. وكان عمره آنذاك لا يتجاوز الاثني عشر ربيعا. وقد التقى به الراهب «بحيرا» ، ورأى معالم النبوّة في وجهه ، وبين كتفيه. ولما سأل عمه أبا طالب : ما هذا الغلام منك؟! قال : ابني. قال : ما ينبغي أن يكون أبوه حيا!! قال : فإنّه ابن أخي مات أبوه ، وأمّه حبلى به. قال : صدقت ، ارجع به إلى بلدك ، واحذر عليه يهود. وقد أخرج الترمذي (٢) هذه الرواية من حديث أبي موسى الأشعري ، وقال : هذا حديث حسن. وسواء صحت هذه الرواية ،
__________________
(١) ابن الجوزي ـ زاد المسير في علم التفسير. ج ٨ ـ ص ٣٠. ومحمد علي الصابوني ـ صفوة التفاسير ـ ج ٣ ـ ص ٢٥٢.
(٢) الترمذي ـ السند ج ٤ ص ٢٩٦.