وسط هذه الجحافل من المتنبئين ، والنبوءات ، لا نجد غير «القرآن» الذي تحققت نبوءاته حرفا حرفا. وهذا الواقع يكفي في ذاته لإثبات أن هذا الكلام صادر من عقل وراء الطبيعة يمسك بزمام الأحوال والحوادث ، وهو على معرفة بكل ما سيحدث منذ الأزل إلى الأبد.
وسوف نورد هنا خبرين من التنبؤات الكثيرة التي أدلى بها رسول الإسلام ، وتحققت بكاملها. والشهادتان اللتان سنذكرهما ، تتعلق إحداهما بغلبة الإسلام نفسه ، على حين تتعلق بغلبة الروم مرة أخرى ..
أ ـ عند ما بدأ النبي «صلىاللهعليهوآلهوسلم» دعوته وقفت الجزيرة العربية كلها ضده ، وكان على النبي مواجهة ثلاث جبهات في وقت واحد :
أولاها : القبائل المشركة ، بعد أن أصبحوا أعداء حياته.
وثانيتها : الرأسمالية اليهودية.
وثالثتها : أولئك المنافقون الذين تسربوا داخل المسلمين للقضاء على حركتهم ، من داخل معاقلهم.
وكان الرسول يجاهد في سبيل رسالته السامية على كل هذه الجبهات : قوة المشركين ، والرأسمالية اليهودية ، والطابور الخامس. وقد وقف أمام هذا الطوفان الطاغي وقفات رائعة لا مثيل لها ، ولم يسانده في مواقفه غير حفنة من المهاجرين ، والأنصار ، وجماعة أسلمت من العبيد. ومما لا شك فيه أنه قد انضم إليه بعض كبار قريش ، ولكن سرعان ما انقطعوا عن أهلهم ، وذويهم ، وعادتهم قريش كمعاداتها للنبي.
وقد سارت هذه الحركة بمكة قدما ، تكافح وتناضل ، حتى أصبحت الأمور غاية في السوء ، واضطر النبي ، وأصحابه أن يهاجروا إلى جهات مختلفة ، حتى اجتمع شملهم في المدينة المنورة ، وهم في أشد حالات العوز ، والفقر ، بعد ما تركوا ثرواتهم في مكة ـ موطنهم الأصلي ـ. ويمكن قياس بؤس هؤلاء المهاجرين بتلك الجماعة التي عاشت في المسجد النبوي ، حيث لم تكن لديهم بيوت ، وكانوا ينامون على «صفة» في فناء