وفشت الأمراض الوبائية ، ولم يبق من الإمبراطورية غير جذور شجرها العملاق. وكان الشعب في العاصمة خائفا يترقب ضرب الفرس للعاصمة ، ودخولهم فيها ، وترتب على ذلك أن أغلقت جميع الأسواق ، وكسدت التجارة ، وتحولت معاهد العلم ، والثقافة إلى مقابر موحشة مهجورة.
وبدأ عباد النار يستبدون بالرعايا الروم للقضاء على المسيحية .. فبدءوا يسخرون علانية من الشعائر الدينية المقدسة ، ودمروا الكنائس ، وأراقوا دماء ما يقرب من ٠٠٠ ، ١٠٠ من المسيحيين المسالمين. وأقاموا بيوت عبادة النار في كل مكان ، وأرغموا الناس على عبادة الشمس والنار ، واغتصبوا الصليب المقدس ، وأرسلوه إلى «المدائن».
ويقول المؤرخ «جبن» في المجلد الخامس من كتابه :
«ولو كانت نوايا «كسرى» طيبة في حقيقة الأمر ، لكان اصطلح مع الروم ، بعد قتلهم «فوكاس» ، ولاستقبل «هرقل» كخير صديق أخذ بثأر حليفه ، وصاحب نعمته «موريس» ، بأحسن طريقة ؛ ولكنه أبان عن نواياه الحقيقية عند ما قرر مواصلة الحرب» (١).
ويمكن قياس الهوة الكبرى التي حدثت بين الروم والفرس من خطاب وجهه «كسرى» إلى «هرقل» من بيت المقدس ، قائلا :
«من لدن الإله كسرى ، الذي هو أكبر الآلهة ، وملك الأرض كلها ، إلى عبده اللئيم الغافل هرقل : إنك تقول : إنك تثق في إلهك! فلما ذا لا ينقذ إلهك القدس من يدي؟!».
واستبد اليأس ، والقنوط بهرقل من هذه الأحوال السيئة ، وقرر العودة إلى قصره الواقع في «قرطاجنة» على الساحل الإفريقي .. فلم يعد يهمه أن يدافع عن الإمبراطورية ، بل كان شغله الشاغل إنقاذ نفسه. وأرسلت
__________________
(١) كتاب جبن / مجلد / ٥ ص ٧٤.