مبعدا لم ير ما يهوى من الكلال ، والإعياء» (١). وقال الإمام القرطبي : «أي اردد طرفك ، وقلب بصرك في السماء (كرتين). أي مرة بعد مرة أخرى ، يرجع إليك البصر خاشعا صاغرا متباعدا عن أن يرى شيئا من ذلك العيب والخلل : وإنما أمر بالنظر كرتين ؛ لأنّ الإنسان إذا نظر في الشيء مرة ، لا يرى عيبه ما لم ينظر إليه مرة أخرى. والمراد بالكرتين التكثير بدليل قوله : (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ). وهو دليل على كثرة النظر» (٢).
ولنا القول أيضا : وعند ما يقول الله تعالى في كتابه : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) سورة الذاريات آية ٢١. فهو يشير كما يقول ابن عباس : «إلى اختلاف الصور ، والألسنة ، والألوان ، والطبائع ، والسمع ، والبصر ، والعقل ، إلى غير ذلك من العجائب المودعة في ابن آدم» (٣). وكما يقول قتادة : «من تفكر في خلق نفسه ، عرف أنّه إنما خلق ولينت مفاصله للعبادة» (٤). ومما لا شك فيه أن دلائل هذه العظمة الإلهية في الخلق للنفس الإنسانية تتجلى واضحة جلية ضمن تناسق شواهد التوافق في خلقها ، والاختلاف في صورها ، وألسنتها ، وألوانها ، وطبائعها ، وغيرها من صور بدائع خلقها. ولذلك لا ترى في حقيقة خلقها أي تناقض ، أو خلل ، أو نقص ، أو زيادة.
أ ـ فالقرآن الكريم ، وهو يتكلم عن توافق شواهد خلق النفس ، وفي جميع أطوارها ومراحلها ، فهو يصدق هذه الحقيقة. فحقيقة خلق أطوار آدم هي نفسها حقيقة خلق أطوار كل نفس سواء أكانت أطوار الجنين ، أو أطوار الخلق ما بعد الولادة. مصداق قوله تعالى : (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) سورة نوح آية ١٤. فكل نفس آدمية خلقت أطوارا ، ومرت
__________________
(١) الإمام الفخر الرازي ـ التفسير الكبير ـ ج ٣٠ ص ٥٨.
(٢) الإمام القرطبي ـ التفسير ـ ج ١٨ ـ ص ٢٠٩.
(٣) الإمام الخازن ـ التفسير. ج ٤. ص ٢٠٣.
(٤) الإمام الخازن المرجع السابق نفسه.