من كان من المنافقين يقول لإخوانه في النسب وقرابته هلمّ ، أي : إلى المنازل والأكل والشرب ، واترك القتال (١). وروي : أنّ جماعة منهم فعلت ذلك وأصل (هَلُمَ) : ها المم. وهذا مثل تعليل «ردّ» من «اردد» والبأس : القتال و (إِلَّا قَلِيلاً) معناه إلا إتيانا قليلا ، و (أَشِحَّةً) جمع شحيح والصواب تعميم الشحّ أن يكون بكلّ ما فيه للمؤمنين منفعة.
وقوله : (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ) قيل : معناه : فإذا قوي الخوف رأيت هؤلاء المنافقين ٧٢ ب ينظرون إليك / نظر الهلع المختلط ؛ الذي يغشى عليه ، فإذا ذهب ذلك الخوف العظيم وتنفّس المختنق : (سَلَقُوكُمْ) أي : خاطبوكم مخاطبة بليغة ، يقال : خطيب سلّاق ومسلاق ومسلق ولسان أيضا كذلك إذا كان فصيحا مقتدرا ووصف الألسنة بالحدّة لقطعها المعاني ونفوذها في الأقوال ، قالت فرقة : وهذا السلق هو في مخادعة المؤمنين بما يرضيهم من القول على جهة المصانعة والمخاتلة.
وقوله : (أَشِحَّةً) حال من الضمير في (سَلَقُوكُمْ).
وقوله : (عَلَى الْخَيْرِ) يدل على عموم الشح في قوله أولا : (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) وقيل : المراد بالخير : المال ، أي : أشحة على مال الغنائم ، والله أعلم. ثم أخبر تعالى عنهم أنهم لم يؤمنوا ، وجمهور المفسرين على أن هذه الإشارة إلى منافقين لم يكن لهم قط إيمان ، ويكون قوله : (فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) أي : أنها لم تقبل قط ، والإشارة بذلك في قوله (وَكانَ ذلِكَ) إلى حبط أعمال هؤلاء المنافقين ، والضمير في قوله : (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ) للمنافقين ، والمعنى : أنهم من الفزع والجزع بحيث رحل الأحزاب وهزمهم الله تعالى ، وهؤلاء يظنون أنها من الخدع ؛ وأنّهم لم يذهبوا ، (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ) ، أي : يرجعوا إليهم كرة ثانية (يَوَدُّوا) من الخوف والجبن (لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ) أي : خارجون إلى البادية. (فِي الْأَعْرابِ) وهم أهل العمود ليسلموا من القتال. (يَسْئَلُونَ) أي من ورد عليهم. ثم سلّى سبحانه عنهم وحقّر شأنهم بأن أخبر أنهم لو حضروا لما أغنوا ولما قاتلوا إلا قتالا قليلا ؛ لا نفع له. ثم قال تعالى ـ على جهة الموعظة ـ : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) حين صبر وجاد بنفسه ، و (أُسْوَةٌ) معناه قدوة ، ورجاء الله تابع للمعرفة به ، ورجاء اليوم الآخر ثمرة العمل الصالح ، وذكر الله كثيرا من خير الأعمال فنبّه عليه.
__________________
(١) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٢٧٤) رقم (٢٨٣٩٨) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٤ / ٣٧٥)