وقال أبو عبيدة (١) : أسرّوا : أظهروا ، وهو من الأضداد ، ثم بيّن تعالى الأمر الذي تناجوا به ، وهو قول بعضهم لبعض على جهة التوبيخ بزعمهم : (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ) المعنى : أفتتّبعون السحر وأنتم تبصرون ، ثم أمر الله تعالى نبيه صلىاللهعليهوسلم ، أن يقول لهم وللناس جميعا : قل (رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي : يعلم أقوالكم هذه ، وهو بالمرصاد في المجازاة عليها ، ثمّ عدّد سبحانه جميع ما قالته طوائفهم ووقع الاضراب بكلّ مقالة عن المتقدمة لها ؛ ليبيّن اضطراب أمرهم فقال تعالى : (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ) والأضغاث : الأخلاط ، ثم حكى سبحانه اقتراحهم ، آية تضطرهم ؛ كناقة صالح وغيرها ، وقولهم : (كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) دالّ على معرفتهم بإتيان الرسل الأمم المتقدمة.
(ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٧)
وقوله سبحانه : (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ) فيه محذوف يدلّ عليه المعنى تقديره : والآية التي طلبوها عادتنا أنّ القوم إن كفروا بها عاجلناهم ، وما آمنت قبلهم قرية من القرى التي نزلت بها هذه النازلة ، أفهذه كانت تؤمن؟.
وقوله : (أَهْلَكْناها) جملة في موضع الصفة ل (قَرْيَةٍ) والجمل : إذا اتّبعت النّكرات ؛ فهي صفات لها ، وإذا اتبعت المعارف ؛ فهي أحوال منها.
وقوله سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) هذه الآية ردّ على من استبعد منهم أن يبعث الله بشرا رسولا و (الذِّكْرِ) هو كلّ ما يأتي من تذكير الله عباده ، فأهل القرآن أهل ذكر ، وأمّا المحال على سؤالهم في هذه الآية فلا يصحّ أن يكونوا أهل القرآن في ذلك الوقت ؛ لأنهم كانوا خصومهم ، وإنما أحيلوا على سؤال أحبار أهل الكتاب من حيث كانوا موافقين لكفّار قريش على ترك الإيمان بمحمد صلىاللهعليهوسلم.
(وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠) وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) (١٢).
__________________
(١) ينظر : «مجاز القرآن» (٢ / ٣٤)