فأما مكرهم بالشعب فلأنهم ضللوهم عن اتباع الحق ، وحالوا بينهم وبين الإيمان بنوح ، وأما مكرهم بنوح فلأنهم كانوا يتظاهرون أمامه بأن الأمر متروك للناس ، وما كانوا يظهرون له أعمالهم الحقيقية ، مكروا مكرا كبيرا ، ولكن الله مكر بهم ، وهو خير الماكرين. ومن طرق المكر التى كان يسلكها أشرافهم ورؤساؤهم أنهم أشاروا عليهم ، بل ونهوهم عن التفريط فى آلهتهم ، وكانوا يظهرون لهم فى ثوب الناصح الشفوق ، لا تدعن آلهتكم التى عبدتموها ، وعبدها آباؤكم من قبل ، ولا تدعن خاصة ودّا ، ولا سواعا ، ولا يغوث ، ولا يعوق ، ولا نسرا ، إذ تلك زعماء الآلهة ، وكأن الآلهة كالبشر فيها السوقة والخاصة ، وفيها الأشراف والعامة.
يا رب هؤلاء الأشراف والرؤساء هم سبب البلاء والشقاء ، فقد أضلوا كثيرا ، وما زالوا يضلون ، يا رب لا تزد الظالمين إلّا ضلالا ، فهذه هى إرادتك ، وهذا عملهم فلا أمل فيهم يرجى ، فيارب نفّذ فيهم إرادتك بهلاكهم.
* ويصل انفعال نوح إلى ذروته ، بعد أن دأب ليلا ونهارا على دعوة قومه إلى الحق ، وداوم على إسداء النصح لهم سرّا وعلانية ، وهم يلجّون فى عنادهم وكفرهم ، ويفرون من الهدى فرارا ، ولا يزدادون إلّا ضلالا واستكبارا ، فما كان من نوح ـ وقد يئس من صلاحهم إلا أن يتملكه الغيظ ، ويمتلىء فوه بكلمات الدعاء الهادرة الغضبى ، تنطلق فى الوجود مجلجلة مدوية ، بهديرها الرهيب ، وإيقاعها العنيف ، حين وقف داعيا على قومه بالهلاك والتبار
(رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ..)
(إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً ..)
[نوح : ٢٦ ـ ٢٨]