إذا أخذ البلاء بخناقهم ، واستمكن الضّرّ من أحوالهم ، وعلموا ألّا محيص ولا محيد أخذوا فى التضرّع والاستكانة ، ودون ما يرومون خرط القتاد! ويقال لهم هلّا كان عشر عشر هذا قبل هذا؟ ولقد قيل :
قلت للنفس : إن أردت رجوعا |
|
فارجعى قبل أن يسدّ الطريق |
قوله جل ذكره : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١))
يومئذ لا تنفع الأنساب وتنقطع الأسباب ، ولا ينفع النّدم ، وسيلقى كلّ غبّ ما اجترم ؛ فمن ثقلت بالخيرات موازينه لاح عليه تزيينه. ومن ظهر ما يشينه فله من البلاء فنونه ؛ تلفح وجوههم النار ، وتلمح من شواهدهم الآثار ، ويتوجه عليهم الحجاج ، فلا جواب لهم يسمع ، ولا عذر منهم يقبل ، ولا عذاب عنهم يرفع ، ولا عقاب عنهم يقطع.
قوله جل ذكره : (قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦))
نطقوا بالحقّ ... ولكن فى يوم لا ينفع فيه الإقرار ، ولا يقبل الاعتذار ، ثم يقولون :
(رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧))
والحقّ يقول : لو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه. علم أنّ ردّهم إلى الدنيا لا يكون ، ولكنه علم أنّه لو كان فكيف كان يكون.
قوله جل ذكره : (قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨))
عند ذلك يتمّ عليهم البلاء ، ويشتدّ عليهم العناء ، لأنهم ما داموا يذكرون الله لم يحصل الفراق بالكلية ، فإذا حيل بينهم وبين ذكره تتم لهم المحنة ، وهو أحد ما قيل فى قوله. (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) (١).
__________________
(١) آية ١٠٣ سورة الأنبياء.