الفراق شديد ، وأشدّه ألا يعقبه وصال ، وفراق المشركين كذلك لأنه قال : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (١)
ويقال من منى بفراق أحبائه فبئست صحبته. وقد كان بين الرسول عليهالسلام وبين أولئك المشركين عهد ، ولا شكّ أنهم كانوا قد وطّنوا نفوسهم عليه ، فنزل الخبر من الغيب بغتة ، وأتاهم الإعلام بالفرقة فجأة ، فقال : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) ، أي هذه براءة من الله ورسوله ، كما قيل :
فبتّ بخير ـ والدّنى مطمئنة |
|
وأصبحت يوما والزمان تقلّبا |
وما أشدّ الفرقة ـ لا سيّما إذا كانت بغتة على غير ترقّب ـ قال تعالى : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) (٢) وأنشدوا :
وكان سراج الوصل أزهر بيننا |
|
فهبّت به ريح من البين فانطفا |
قوله جل ذكره : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢))
إن قطع عنهم الوصلة فقد ضرب لهم مدة على وجه المهلة ، فأمّنهم فى الحال ليتأهبوا لتحمّل مقاساة البراءة فيما يستقبلونه فى المآل.
والإشارة فيه : أنهم إن أقلعوا فى هذه المهلة عن الغىّ والضلال وجدوا فى المآل ما فقدوا من الوصال ، وإن أبوا إلا التمادي فى ترك الخدمة والحرمة انقطع ما بينه وبينهم من العصمة.
ثم قال : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) والإشارة فيه : إن أصررتم على قبيح آثاركم سعيتم إلى هلاككم بقدمكم. وندمتم فى عاجلكم على سعيكم ، وحصلتم فى آجلكم على خسرانكم ؛ وما خسرتم إلا فى صفقتكم ، وما ضرّ جزمكم سواكم وأنشدوا :
تبدّلت وتبدّلنا وا حسرتا |
|
من ابتغى عوضا لليلى فلم يجد |
__________________
(١) آية ٤٨ سورة النساء
(٢) آية ٣٩ سورة مريم