حمامة من ذهب كما ذكرنا ، قال : وكان قد بعث زوجها على بعض جيوشه فكتب إليه أن سر (١) إلى مكان كذا وكذا إذا سار إليه قتل ، ففعل فأصيب فتزوج امرأته (٢) ، قالوا : فلما دخل داود بامرأة أوريا لم يلبث إلا يسيرا حتى بعث الله إليه ملكين في صورة رجلين في يوم عبادته ، فطلبا أن يدخلا عليه ، فمنعهما الحرس فتسورا المحراب عليه ، فما شعر وهو يصلي إلا وهما بين يديه جالسين ، يقال : كانا جبريل وميكائل ، فذلك قوله عزوجل : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) ، خبر الخصم ، (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) ، صعدوا وعلوا ، يقال : تسورت الحائط والسور إذا علوته ، وإنما جمع الفعل وهما اثنان لأن الخصم اسم يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث ، ومعنى الجمع في الاثنين موجود ، لأن معنى الجمع ضم شيء إلى شيء هذا كما قال الله تعالى : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم : ٤].
(إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ) ، خاف منهما حين هجما عليه في محرابه بغير إذنه ، فقال : ما أدخلكما عليّ ، (قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ) ، أي نحن خصمان (بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) جئناك لتقضي بيننا ، فإن قيل : كيف قالا : (بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) وهما ملكان لا يبغيان؟ قيل : معناه رأيت خصمين بغى أحدهما على الآخر ، وهذا من معاريض الكلام لا على تحقيق البغي من أحدهما (٣)(فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ) ، أي لا تجر ، يقال : شط الرجل شططا وأشط إشطاطا إذا جار في حكمه ، ومعناه مجاوزة الحد ، وأصل الكلمة من شطت الدار وأشطت إذا بعدت. (وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) ، أرشدنا إلى طريق الصواب والعدل ، فقال داود لهما : تكلّما.
(إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦))
فقال أحدهما : (إِنَّ هذا أَخِي) ، أي على ديني وطريقتي ، (لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) ، يعني امرأة ، (وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ) ، أي امرأة واحدة ، والعرب تكني بالنعجة عن المرأة.
قال الحسين (٤) بن الفضل : هذا تعريض للتنبيه والتفهيم لأنه لم يكن هناك نعاج ولا بغي فهو كقولهم : ضرب زيد عمرا أو اشترى بكر دارا ، ولا ضرب هنالك ولا شراء ، (فَقالَ أَكْفِلْنِيها) ، قال ابن عباس : اعطنيها. قال مجاهد : انزل لي عنها. وحقيقته ضمها إليّ فاجعلني كافلها ، وهو الذي يعولها وينفق عليها ، والمعنى : طلقها لأتزوجها ، (وَعَزَّنِي) ، وغلبني ، (فِي الْخِطابِ) ، أي في القول. وقيل : قهرني لقوة ملكه. قال الضحاك : يقول إن تكلم كان أفصح مني وإن حارب كان أبطش مني.
وحقيقة المعنى : أن الغلبة كانت له لضعفي في يده ، وإن كان الحق معي وهذا كله تمثيل لأمر داود
__________________
(١) في المطبوع «يسير» والمثبت عن المخطوط.
(٢) لا يصح مثل هذا ، ولا يليق بأنبياء الله ، وإنما مصدره الإسرائيليات.
(٣) في المخطوط «أحد» والمثبت عن «ط» والمطبوع.
(٤) في المطبوع «الحين» والمثبت عن المخطوط.