الصباح ، وإذا أصبحنا فلا ننتظر المساء ، ونأخذ من صحتنا لسقمنا ، ومن حياتنا لموتنا ؛ فأعرضنا عن نصحه ، وأطللنا أملنا مع رؤيتنا لموت الأطفال والشبّان ؛ ولهذا بادر من فتح الله بصيرته ، فكان يصلّى الصبح بوضوء العشاء ؛ وآخر لم يضع جنبه على الأرض عشرين سنة ، وآخر حسب ما بين مضغ اللقمة وبلعها خمسين تسبيحة ؛ فكان لا يتقوّت إلا بحساء الشعير ؛ وآخر يقوم ليلا ولا يغفى إلا إغفاء الطير. وآخر ورده كلّ يوم مائة ألف تسبيحة. وآخر لا يتحدث مع أخيه فيعاتبه على ذلك ، فيقول له : أبادر خروج روحى. ونحن مشتغلون بدنيا فانية ؛ ويا ليتنا نلنا منها شيئا ؛ هذا سليمان أعطى منها ما لم يعطه أحد قبله ولا بعده ، والرياح تجرى بأمره رخاء حيث أراد ، فلما استوسق ملكه قال : هذا من فضل ربى ... الآية ؛ فما عدّها نعمة كما نعدّها ، ولا حسبها [٢١٦ ب] كرامة من الله كما نظنّها ؛ بل خاف أن يكون استدراجا من حيث لا يعلم ؛ ونحن أنعم علينا بنعمها لنصرفها فى الطاعة ، فغفلنا عنه وصرفناها فى معصيته ؛ أليس من الخسران المبين ما نحن فيه من الضلال المبين؟ عشنا عيش البهائم ؛ بل هى أحسن حالا منّا ؛ لأنها تحس ونحن فى موت الحسّ. اللهم يا منقذ الغرقاء ، ويا منجّى الهلكى بعد أن يئسوا ، أنقذنا من هذا الوحل العظيم بجاه نبيك الكريم ، عليه أفضل صلاة وأزكى تسليم.
(غبر) : له معنيان : ذهب وبقى. ومنه (١) : (عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) ؛ أى فى الهالكين. قد غبرت فى العذاب : أى بقيت فيه ولم تسر مع لوط. ويقال فى الباقين ؛ وإنما جمع جمع المذكر تغليبا فى الرجال.
(غَيًّا (٢)) : خسرانا. وقد يكون بمعنى الضلال ، كقوله (٣) : (وَإِنْ يَرَوْا
__________________
(١) الشعراء : ٧١
(٢) مريم : ٥٩
(٣) الأعراف : ١٤٦