وذات جبريل الملقى بأمر الله تعالى ، فهما ذاتان منفصلتان تمام الانفصال ، وآيات القرآن ووقائع السيرة النبوية تؤكدان على هذه الحقيقة ، فالموحى به من خارج ذات محمد «صلىاللهعليهوسلم» ، فضلا عن أنه لم ينسب ما جاء به لنفسه وإنما أعلن أنه من خارج ذاته.
يقول صاحب «الإسلام خواطر وسوانح» : «... لو رجعنا إلى ما وضحه الحكماء عن النبوة ولم يقبله المتكلمون من المسيحيين لأمكننا الوقوف على حالة مشيد دعائم الإسلام وجزمنا بأنه لم يكن من المبتدعين ... ومن الصعب أن نقف على حقيقة سماعه لصوت جبريل ـ عليهالسلام ـ إلا أن معرفة هذه الحقيقة لا تغير موضوع المسألة لأن الصدق حاصل في كل حال» (١).
و «واط» أساء فهم الحديث حين استدل بمجيء الوحى إلى الرسول على «صورة رجل» على أنها صورة تخيلها محمد «صلىاللهعليهوسلم». أم أنه يستبعد أن يتشكل الوحى بالصورة البشرية. إن كان كذلك فليقل هذا صراحة ولا يسيء فهم الحديث.
ونقول له : هل تنكر تشكل الوحى بالصورة أو الهيئة البشرية عند ما يكون الأمر يتعلق بالإسلام ونبى الإسلام ، ولا تستنكر ما فعله اليهود حين شبهوا الخالق بالمخلوق ، وزعموا أن الله جل وعلا تجسد فى صورة إنسان لكل من إبراهيم ويعقوب ، وأنه تعالى طعم مع الملكين اللذين حضرا معه لزيارة إبراهيم ، واستراح في ظل شجرة؟ (٢).
أما القرآن الكريم ـ الذى يعتبره كثير من المستشرقين أوهام وتخيلات تتنزل من مخيلة محمد «صلىاللهعليهوسلم» فإنه يخبرنا أن الذين أتوا إبراهيم هم الملائكة وبشروه بإسحاق ويعقوب.
وما العجب أو ما وجه الاستنكار ـ والتجنى على الوحى الإلهى إلى رسول الله ـ أن ملائكة الله يمكن أن يظهروا للأنبياء والرسل في صور بشر (٣) ، كما في حديث رسول الله الذى ترويه أم المؤمنين عائشة «أن الحارث بن هشام ، سأل رسول الله «صلىاللهعليهوسلم» فقال : يا رسول الله ، كيف يأتيك الوحى؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس ـ وهو أشده علىّ ـ فيفصم عنى وقد وعيت عنه ما قال ، وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا فيكلمنى ، فأعي ما يقول ، قالت عائشة ـ رضى الله عنها ـ : ولقد رأيته ينزل عليه الوحى في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا».
__________________
١ ـ هنرى دى فاسترى : السابق ص ٦.
٢ ـ سفر التكوين : الإصلاح ١٨ : ١ ـ ١٥.
٣ ـ أنظر : نبوة محمد «صلىاللهعليهوسلم» للمؤلف ، وأيضا : ابن خلدون : المقدمة.