الجواب الثانى : أنه تعالى لما خلقهم وركبهم تركيبا يدل على معرفته ويشهد بقدرته ووجوب عبادته وأراهم العبر والآيات والدلائل في غيرهم وفي أنفسهم كان بمنزلة المشهد لهم على أنفسهم ، وكانوا في مشاهدة ذلك ومعرفته وظهوره فيهم على الوجه الذي أراده الله تعالى ، وتعذر امتناعهم منه وانفكاكهم من دلالته بمنزلة المقر المعترف ، وإن لم يكن هناك إشهاد ولا اعتراف على الحقيقة ، ويجري ذلك مجرى قوله تعالى : «ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين» وإن لم يكن منه تعالى قول على الحقيقة ولا منهما جواب. ولا مثله قوله تعالى : «شاهدين على أنفسهم بالكفر» ونحن نعلم أن الكفار لم يعترفوا بالكفر بألسنتهم ، وإن ذلك لما ظهر منهم ظهورا لا يتمكنون من دفعه كانوا بمنزلة المعترفين به. ومثل هذا قولهم : جوارحي تشهد بنعمتك وحالي معترفة بإحسانك.
وما روي عن بعض الحكماء من قوله : سل الارض من شق أنهارك؟ وغرس أشجارك؟ وجنى ثمارك؟ فإن لم تجبك جؤارا(١) أجابتك اعتبارا. وهذا باب كبير وله نظائر كثيرة في النظم والنثر ، يغني عن ذكر جميعها القدر الذي ذكرناه منها. ومنها ما ذكره الرازي في تفسير تلك الآية حيث قال : في تفسير تلك الآيه قولان مشهوران :
الاول وهو مذهب المفسرين وأهل الاثر ما روى مسلم بن يسار الجهني أن عمر سئل عن هذه الآية فقال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله سئل عنها ، فقال : إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية ، فقال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون ، فقال رجل : يارسول الله ففيم العمل؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل النار. وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : لما خلق الله آدم
________________
(١) جأر إلى الله : رفع صوته إلى الله.